جملته المشهورة ( انتهى بذلك عمري الوظيفي غير المأسوف عليه ) كان هذا عند تقاعده عام 1988 _ كثر يعيشون حياتهم يتنفسون الحرية غير راغبين بما يقيدهم لا دوام رسمي لوظيفة ولا مواعيد مدرسة صباحية أو مسائية كل التزام يحد من تحليق الفكرة لديهم .. وهكذا كان القاص الأديب خليفة الفاخري المولود ببنغازي في العام 1942 م حيث احتدمت الحرب بين قوات المحور ذلك العام على أرض مدينة بنغازي
إبان الحرب العالمية الثانية .. كانت عائلته ككل العائلات الليبية الفقر والحاجة سمة أحاطتهم فترك خليفة الطفل دراسته متجها للعمل في نظارة المعارف في العام 1958 م _ وبدأ بحفظ القرآن الكريم في (جامع الحدادة أثناء العمل بالمعارف وربما هذا ما لفتت نظره لعديد العناوين التي يوفرها آنذاك المركز الثقافي المصري وعرجت به القراءات المختلفة ناح فن الخط وكلها فنون دفعته للاهتمام بهذا الفن ، والمتعود أنه يتقن كل فن يستهويه وبسبب نهمه للقراءة والفنون أصبح يقوم بالرسم على الختمة في الجامع .
هو خليفة الفاخري الملقب ( جنقي ) كما يحب والده مناداته أو هو من لقبه بذلك اسقاطا على عدم صمته أثناء الصلاة وحركته المستمرة وجنقي جارهم المسيحي وكأن والده يعيره أن صلاته غير صالحة ولا مقبولة لأنه يتحدث أثناء الصلاة ويتحرك فكل من يسأل عن الفاخري ويصدف أنه كان يصلي يقول والده ( هذا يصلي صلاة جنقي المسيحي )
الفاخري الذي بنى نفسه ولم تستهوه مقاعد الدراسة المحصورة في فصل وباب مغلق ومدرسة تحد من خياله الخصب وفورة صباه وحيوية شبابه لم يتوقف عن التحصيل والمعرفة ومن مخالطة العوائل الأجنبية في بنغازي أتقن الإنجليزية .. وصقلها بالدراسة في المركز الثقافي البريطاني وأهله تحصيله المتميز أن يستكمل دراسة للغة الإنجليزية والأدب ليطير في العام 1970 نحو بريطانيا كمكافأة ومنحة للدراسة .
وكل متعلم رفيع المستوى بعلمه يدخل سوق العمل من بابه الواسع من كل بد وهكذا حدث للفاخري الذي تنقّل بين الوظائف العديدة إلى أن استقال العام 1988م ، من وزارة الخارجية ، حيث كان يشغل منصب مستشار ثقافي بالوزارة ليقول بعدها عبارته المشهورة كأنه يعلن تخلصت من عبء ثقيل جعلني ألتزم بتواقيت عمل وخدمات لن أضيعها ولم حيال أناس يحتاجونني فقال : (وانتهى بذلك عمري الوظيفي غير المأسوف عليه) كيف لا يشعر بهذا وهو الرياضي الذي لم يشق له غبار حين لعب اللعبة الشعبية الجماعية كرة القدم في نادي ” التحدي ” وأجادها بشهادة الجميع من مجايليه _ وأجاد لعبة فردية في ذات الحين هي الملاكمة .. ربما عديد الإبداعات مع الدراسة خارج الوطن حين بدأت ملامح كتاباته تتضح للصحب والزملاء وإزدحامات الأعمال التي مارسها حتى استقر به الحال بوزارة الخارجية إلى سن التقاعد جعل هذا الازدحام وليس التشتت على العكس جعل خليفة الفاخري ممن يقال عنهم مقلين في كتاباتهم رغم أن الحقيقة أول الصحف الليبية في بنغازي وخارجها بعد ذلك نشرت أعمالا كثيرة للفاخري .. وعدد من المنشورات كذلك عبر الأسبوع الثقافي .. أما ما استقر من منشوراته فكان عبر مجلتي الفصول الأربعة ثم الثقافة العربية اللتان أرخا لمنشورات عديد الأدباء الليبيين المتميزين .. ولم يبخل بأعماله المهمة على صحيفة المدينة التي أحبها فكانت في مشهدياته وشخوصه وحتى حكاياه مع الصحب .. صحيفة أخبار بنغازي .. اقتصصت له كي تعرفونه أكثر وتقتربون من حكاياته وماهية قلمه غير المسبوق في جيله ولا قبله ولا بعده إلى الآن :
” سيضيق في عينيك الطريق.. ويضيق. ويضيق. ويطفح الأسى على جدار قلبك مثل طحالب بليدة وتغتم السماء على نحو حالك دون أن ينهمر المطر وتحبل أجفانك بدمعتين هادئتين.. وتجوب خطاك المتلعثمة دوامة الدروب بلا صديق. ويضيق الطريق!
_ أريد أن أرى الأيام في مرآتك.. هل يمكنني هذا!
ستقول لك المنجم العجوز.. أنت من بنغازي. أليس كذلك؟.
_ أتسمع . إن بلادك ستصبح مثل غابة. تماما مثل غابة حتى أنك ستظل تحلم بالذئاب بلا انقطاع فيما تصدأ على شفاهكم كل الكلمات الصادقة وإني أرى الآن أحد الرجال يقتل على الرصيف مثل كلب ضليل لأنه قال كلمتين صادقتين في قاعة المحكمة وسيقتل مثلما قلت لك تماما . حسنا وثم رجل سيأتي إلى المحكمة في نفس القضية وسيقول كلماته بشجاعة وجرأة ولكن الذئاب ستمزق جسده أمام بيته في اليوم التالي .. وتخرسون جميعا. “
تميز خليفة الفاخري بموهبة الكتابة النثرية بأدوات جمالية لغوية رائعة تحرك المشاعر وتنفذ الى القلوب في اطار من الرمزية المحببة التي تضيف لقصصه ابعادا تصويرية جميلة، وجميل أن تمنح الفكرة لمتلقيها فكرة .. ويكون الرد المتوائم بين العقل المفكر والوجدان قويا كما الوارد الفلسفي العميق قويا وهكذا قد يستقي الكاتب قاصا أو شاعرا أو مقاليا حتى فكرته من مساجلات حياتية حية .. هكذا كان الفاخري القاص والأديب ابن سوق الحشيش من أعطى بحر الشابي صفحة وجهه سمرة محببة وأعطى صديق عمره المفكر الليبي الفيلسوف الكاتب الصادق النيهوم عمقا حين يصور في رسالته لصديقة وهذا ديدنهما :(أردتُ أن أجعل كلماتي تضيء.. وقد أعطيتها مهلة كاملة لأنني ظننت أن الحروف مثل ثمار الشماري تحتاج إلى وقت لكي تنضج .. وعندما قرأت مرة أن الكلمات تتغذى على التجارب ، هُرعت كالمجنون أجوب الأرض والأحداث وأبحث عن التجارب) ليأتيه الرد من صديقة الفاخري صاحب سيرتنا اليوم قائلا ( ياصديقي .. الجري خلف قطعان الكلمات شاق وطويل ودائب.. إنه عذاب متصل يحفر قلبك طوال الوقت، ويدعك تتعامل مع النار مثل أحد الحواة من دون أن تلتقط أنفاسك أو تنعم بلحظة رضا مدى العمر)..
هذا مادعاه وأنا أجزم حين قرأت عن سيرته دعاه ليأخذ مسدسا ويطلق منه طلقات ثلاثة وحين هرع له الأهل والجيران خوفا مما توقعونه إبان مظاهرات يناير الطلابية في العام 1964 م ليكتشفوا أنه كتب كلمات على الحائط ولكي يسكت وجيب روحه على الطلبة الذين قضوا ومنهم جيرانه ومعارفه ويهدئ من روع الفاجعة وماكان بيده حيلة ليغير شيئا من الظلم .. فعل ماجعله بعد ذلك يستمر حيا يكتب ويتعايش أطلق النار على الكلمات وكأنه قتل الظلم الصارخ فيها .. وتجسدت قهره في قصيد سقت منه بعض ما صاح فيه :
يناير 1964
(يومنا الرابع عشر من يناير
دفق أنشودة نصر..
في الحناجر.. تتحدى كل غدر.
كل كافر بزغاريد الحياة)
هذه المعاني التي سعى لتأصيلها خليفة الفاخري الناشر الناثر لأدب سردي مختلف إذ يعلن للإنسانية تبسطي فالعمق في البساطة والراحة في افتراش الرمل والبحر وعتبات الدكاكين العتيقة لصنع الحكايا التي يجسدها بحار وتاجر وبائع سفنز ومتقن لطاجين الحوت بنكهة صيادي البنكينة أو صنارات مغمسة بلب الخبر أمام تلاطم الموج عند صخور الكورنيش .. تلمسها الكاتب المسرحي والناقد والمعد البرامجي منصور بوشناف الذي جايل العملاقين فقال عنهما : الفاخري وزميله الصادق النهيوم شكلا طليعة أدب جديد في مدينتهما بل في كل ليبيا واستطاعا معا خلق تيار أدبي أكثر تفتحا على أدب العالم .. الفاخري ظل لصيقا بالمواطن البسيط وهمومه معطيا أبعادا إنسانية عميقة للمعاناة جعلته جزءً من تلك الملحمة الإنسانية وصراعه يتضح من أجل وجود أفضل .. الفاخري فعلا هو أحد مطوري النثر الليبي الحديث
ولن نستثني هنا توثيقا مهما شارحا لشخصية الكتابة لدى الفاخري وسيرته العبرة ما ورد في كتاب الأديب / محمد عقيلة العمامي _ المعنون منابت الريح :
محمد عقيلة العمامي سخَّر موهبته الرائعة في ادب الرواية لكتابة سيرة صديقه الراحل في كتاب اسماه ((منابت الريح)) فجاء كملحمة صادقة عن سيرة الفاخري الأدبية بكل تفاصيلها ومراحلها وجاءت انعكاسا حقيقيا لمشاعر الود والصداقة العميقة التي كانت تربطهما وما نتج عنها من معايشة يومية ساعدت في عرض موهبة الفاخري واسلوبه ومعاناته بواقعية بأمانة.
” كان لقائي الأول مع خليفة سنة 1964 بمقر نادي التحدي القديم الذى يقع بالطرف الشمالي من ميدان الفندق البلدي حيث قدمني اليه صديقي وصديقه – مفتاح الدغيلي – كنت سعيدا جدا بذلك اللقاء لأنّ مفتاح كان على مدى العام السابق لذلك لقاء يحدثني كثيرا عنه وعن دماثته وثقافته وسعة اطلاعه على الادب العربي والادب العالمي المترجم، وولعه بشعر المتنبي وشعر نزار قباني، لذلك حرصت على ذلك اللقاء الذي افضي فيما بعد الي صداقه واخوة حقه استمرت وزادت في التقارب الى درجة الفناء كل منا في ذات الاخر حتي الوداع الأخير ” …….. “
” شمل النشاط أيضا إصدار جريدة حائطية رائعة أسماها ” المتنبي “الذي يعد شاعره المفضل” صدرت في ثلاث أعداد وكل عدد فيه تجديد في الإخراج والشكل عن سابقه وكان المبدع وحده يقوم بإخراجها والكتابة فيها بخطه الجميل المتميز وبكتاباته الأدبية عن مواضيع يختارها بعناية وموهبة مثل تناوله لقصة الشيخ والبحر وما تهدف اليه، للكاتب هيمنجواي الذي يعشق خليفة كتاباته، وغيره ممّن قرأ لهم من الادباء الذين يؤمن بهم وتستهويه ابداعاتهم ….”
” ثم تأسست جريدة الحقيقة في عام 1964 وفي مسافة سنتين اصبحت منارة ثقافية هامه وبدأت تنشر مقالات الفيلسوف الراحل صادق النيهوم وقصص المبدع خليفة الفاخري وآخرين. ولقد انبهر جمهور القراء في ليبيا ولأول مرة بأسلوب الصادق الجديد بما فيه من جرأة وسخرية ناقدة لممارسات المجتمع الليبي الخاطئة، موظفا كتاباته لهدف واحد هو قهر التخلف العلمي والاجتماعي والديني بالدرجة الاولى. مستخدما موظفا فلسفته، وأيضا في حياته الخاصة .. وبدأ معه في نفس التاريخ خليفة الذي فاجأ أيضا القراء بإبداعه ومنحوتاته الادبية الرائعة بأسلوب جديد بحق، حيث كان يوظف جمال الأسلوب فى بناء المشهد ويعززه بإسقاطات رمزية تستحضر الماضي وتظهر الحاضر وتستشرف المستقبل، الي درجة اصــبح الرمــز عنده من اساسيات بناء نصوصه. واستمر الرمز والصورة لدى خليفة جزء مكمل لجماليات كتاباته، فبعد أن يختار موضوع قصته يبدأ فى صياغة هيكليتها ليشرع بعدئذ في نحت حروف كلماته ويحولها الى فسيفساء تعكس معاناة الانسان فى سرد إيقاعي مترابط مفعم بالصور والألوان، مستنداً على موهبته الخارقة، وصدقه البالغ، و التزامه بالقيم الإنسانية، ووفاءه لوطنه ولأهله ولأصدقائه، وهو ما يميز الرائع خليفة الفاخري. سنظل طويلا نذكر جنقي كرمز أدبي حقيقيا لبلادنا ” … كل هذا الإنسان .. كل هذا الأديب الكبير العميق .. كل هذا التأثير في ماهية الكتابة الرمزية بمشهدية محفزة لنثر الحكايا في حكايا النثر كانت لسيرة كاتب أديب مسرحي رياضي حظت المكتبة الليبية الثقافية منه بإصدارات ثلاث فصدر للفاخري خلال رحلة حياته الأدبية والإنسانية :
موسم الحكايات بنغازي – دار الحقيقة 1974م
بيع الريح للمراكب طرابلس – الدار الجماهيرية 1994م
غربة النهر طرابلس – الدار الجماهيرية 1994م.
قرأت عن موسم الحكايات تعقيبا من قارئ لخص المحتوى البديع فقال : موسمُ الحكايات..
” موسمُ السعي خلف وجوه الأصدقاء، والذكريات، وأسراب الكلمات الطيبة، والأماكن الغامرة بالضوء، والبهجةْ واحتشاد الناس في محطّات القطارْ ومشاهد اللقاء والوداع الدامعة العينين، والرحيل، ومشاعر الغُربة في الداخل والخارج، والأرصفة المُلتمعة بعد احتباس المطر، والطرقات المهجورة في وحشة المساء.. والإحساس بالوحدة! أجل، هذا هو موسمُ الحكايات.. “
وشعرت لحظتها أن الفاخري حكاية لمواسم عدة لا تنتهي كأيام بنغازي التي يشاغب الشباب بعضهم قائلين ” يومك في بنغازي تعيش فيه الفصول الأربعة .. فاعادي تمطر في عز الصيف ” .
جمعتها من مواقع عدة – عفاف عبدالمحسن
شارك هذا الموضوع:
اكتشاف المزيد من New Jetpack Site
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.