محمود عمار المعلول
كاتب وباحث ليبي
المال في اللغة معناه كل ما ملكته من الأشياء ، أما الفقهاء فقالوا أن الأشياء التي يجب تسميتها بالمال يجب أن يتوفر فيها شرطان هما : إمكانية الحيازة ، وإمكانية الانتفاع بها على وجه معتاد فما حيز من الأشياء وانتفع به فهو مال ، ولذلك لا يكون المال إلا مادة .
ولكن رأى فريق أخر من الفقهاء أن المنافع يمكن أن تكون مال ، مثل إيجار حجرة في فندق ( الخدمة ) ، وقد أخذ التشريع الوضعي بذلك ، ولكن الزكاة مثلاً لا تقوم إلا بالمال العيني لا المنافع فلو قال صاحب فندق أنا أقوم بتأجير حجرة لفلان بنية الزكاة لا يجزئه ذلك ، أو قال صاحب تاكسي أنا أقوم بتوصيل فلان ( الفقير ) بدون أخذ مال ولكن بنية الزكاة لا يجزئه ذلك .
يعتبر المال أحد وسائل السعادة في الدنيا ، وقد قدمه المولى عز وجل على الأولاد في القرآن الكريم فقال تعالى ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) الكهف الآية 46 ، وقال تعالى ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) التغابن الآية 15 ، فزينة المال أكثر من زينة الأولاد ، وكثير من الناس يتفاخر بماله ولا يتفاخر بأولاده ، وزينة المال عامة لكل الناس ، وإنما زينة الأولاد خاصة بالأباء فقط ، كذلك المال سبب لبقاء النفس والأولاد سبب لبقاء النوع ، والحاجة إلى المال أشد من الحاجة إلى الأولاد في الغالب ، والمال زينة بنفسه بخلاف الأولاد فلا يكونون زينة بدون المال ، ومن له أولاد ولا مال له فهو في أشد حالات الضيق والشقاء .
سأل الحجاج بن يوسف ( 41 ـ 95 هـ / 661 ـ 714 م ) أحد الأشخاص : ما النعمة ؟ قال : الأمن فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش ، قال : زدني ، قال : الصحة فإني رأيت المريض لا ينتفع بعيش ، قال : زدني ، قال : الغنى فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش ، قال : زدني ، قال : الشباب فإني رأيت الشيخ الكبير لا ينتفع بعيش .
فالمال له تأثير واضح في الحياة الاجتماعية والسياسية فالذي عنده المال عنده الكلمة والوجاهة عند الناس ، والمال يصنع السلطة أو يؤدي بصاحبه إلى النفوذ والسلطة بسبب أن المال يخلق لصاحبه مداخل ومخارج للتصرف في الحياة العامة ، وحتى في مجال السياسة هناك قول مشهور ، وهو ( أن المال يصنع القرار ) ، فمثلاً لو قام أحد الأشخاص بإنشاء طريق بين العاصمة طرابلس وإحدى المدن الليبية الأخرى بماله الخاص ، ثم خطر له أو قرر أن يأخذ ضريبة عبور ( رسوم ) لكل من يعبر هذا الطريق أليس ذلك بقرار أثر في حياة الناس ، ولا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك .
وحتى في مجال الدين والرسالات السماوية كان أصحاب الأموال والجاه والسلطان هم المعارضين للأنبياء والرسل، وكان أكثر أتباع الرسل والأنبياء هم من الفقراء، وفي القرآن الكريم نجد أن الملأ وهم الرؤساء والسادة والقادة ووجوه القوم وكبراءهم وبطبيعة الحال هم من الأغنياء يعارضون الأنبياء ورسالتهم، ويقولون لهم أنتم اتبعكم الفقراء.
فالمال له تأثير كبير في الحياة، وهو قوام الحياة به تتزوج وتسكن وتشتري ما تريد ، والإنسان يحتاج بطبيعة الحياة إلى أشياء كثيرة والمال عنصر أساسي في قضائها ، والإسلام حرص كل الحرص على مصلحة المسلم ، وأن يكون قوياً فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف فالقوة تكون بالمال في كثير من الأحيان .
وقد قال أحد الحكماء لأبنه وهو يوصيه با بني إذا أردت الرئاسة على الناس فعليك بالمال والعلم بالعامة عوام الناس تفضلك بما تملك ( المال ) والخاصة خواص الناس تفضلك بما تحسن ( بالعلم ) .
وقوة اليهود ونجاحهم تكمن في أحد عناصرها بامتلاك المال ، فهم يقولون ( إذا كانت قوتنا الأولى في السيطرة على العالم هي الذهب فيجب أن تكون قوتنا الثانية هي الإعلام ) ، وفعلاً هم صادقون في ذلك ، فالمال والإعلام مهمان جداً ، والإعلام هو الذي يوصل صوتك إلى الآخرين ، وقد امتلك اليهود الاثنين ( المال ـ الإعلام ) ، فنشر الخبر مثلاً يحدث تأثير في الآخرين ، وأحياناً تأثير قوي جداً .
إن السعادة لا يجلبها المال ، ولكن المال في أحيان كثيرة ربما يحقق السعادة بنسبة ( 90% ) ، والأمر نسبي حسب طبيعة الحياة فإذا وجد مجتمع غير مادي فيه الأفراد يحب بعضهم بعضاً لا طمعاً في مصلحة أو مال يتزاورون ويتحابون ، لا غل ولا حقد ولا حسد ، وإنما إخوة متحابون يفرحون بفرح فلان ويتألمون من أجله أليست هذه سعادة ، وهذا مجتمع سعيد .
المال له تأثير كبير على الناس ، ويمكن صاحبه من فعل ما يريد بكل سهولة ويسر ، وحتى في أمثالنا الشعبية الليبية ، والأمثال هي حصيلة خبرة الشعوب نجد ( المال يدير طريق في البحر ) ، و( بفلوسك تركب على الباشا ) ، وهذه كلمة خطيرة لها معناها بمعنى أنك تؤثر في الحياة السياسية ، ويصبح لك نفوذ وسلطان ، بسبب قوة المال التي عندك فلذلك تجد السلطة السياسية في كثير من البلدان في العالم تدعم وتقف مع أصحاب الأموال المتنفذين .
وهناك مثل أخر وهو ( الفقير ينبحن عليه حتى الكلاب في السوق ) بمعنى أن الغني حتى الكلاب تتجنبه لأنه صاحب نعمة ومال ، إلى غير ذلك من الأمثال التي تؤكد أهمية وتأثير المال على الناس .
وهكذا فبسبب تأثير المال على الناس اختلت عندهم المعايير والمقاييس في كل زمان ومكان ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي زمانه أفضل زمان مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول لرجل من أصحابه : ما رأيك بهذا ؟ فقال : هذا حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، وإن قال أن يستمع لكلامه ( وكان الرجل وجيهاً في قومه ومن أصحاب المال ) فسكت عليه السلام ، فمر رجل أخر من فقراء المسلمين فقال الرسول للرجل : وما رأيك بهذا ؟ فقال : هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يستمع لكلامه ، فقال عليه الصلاة والسلام ( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) .
ويحكى عن أحد المشايخ ممن يتقربون من أصحاب الجاه والسلطان والمال ، وقد كان أعمى ( أعمى القلب وأعمى البصيرة ) فكان يسلم على الناس بعد انتهاء الصلاة فإذا وجد الشخص من أصحاب المناصب والمال والسلطان يسلم عليه بكلتا يديه ، ويرحب به أشد الترحيب ، ويقول له : أنت أبن من ؟ فيسمي الشخص أسم أبيه فيقول له الشيخ : أنا أعرف أباك لقد كان من أحسن الناس وأفضلهم ، ويبالغ في الشكر والمدح ( لأن الشخص من أصحاب الجاه والسلطان والمال بطبيعة الحال ) .
وإذا سمى له الشخص أسم أبيه وكان من الفقراء وليس له جاه أو سلطان فإن الشيخ يعرض عنه بوجهه أعراضاً شديداً ولا يكلمه ، بل أنه يسحب يديه بقوة شديدة كأن الشخص ( الفقير ) الذي سلم عليه به مرض معدي والعياذ بالله ( بمعنى أنه يزدري ويحتقر الشخص لأنه فقير ) .
وقد قال أحد الشعراء عن المال :
المال يستر كل عيب في الفتى ………………….. والمال يرفع كل وغد ساقط
فكم من شخص لديه المال ، تراه يلبس الملابس النظيفة والجميلة يستقبل في الفنادق والحفلات بالترحيب والابتسامات وباقات الزهور وبفتح باب السيارة وبكلمة ( تفضل يا سيدي ) مع أن سلوكه وتصرفاته لا تليق بإنسان ، ولكن المال أو الوظيفة هو الذي أعطاه الوجاهة والمكانة بين خلق الله .
أن الإنسان يصل أعلى المراتب بسلوكه ونواياه وحبه للخير والمثل والقيم العليا ، ويصل إلى أسفل السافلين بتصرفاته وسلوكه وجشعه وخبث نفسه وفساده وانحطاطه ، وقد ألف أحد العلماء الأولين كتاباً بعنوان طريف هو ( فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ) أوصل فيه بعض الناس إلى درجة أقل من درجة الحيوان .
ومن لطائف التفسير لقوله تعالى ( مناع للخير معتدي أثيم ) بصيغة المبالغة إن معناه هو الذي لا يفعل الخير مطلقاً ، ويمنع الغير من فعله ، بسبب سلوكه ، وقيل هو الذي يمنع كل عمل صالح فيه خير وبأي صورة كانت ، بمعنى كما يقول المثل الليبي ( لا يرحـم ولا يخلي رحمة ربي تنزل على الغير ) والعياذ بالله ، ولله المثل الأعلى .
اللهم جنبنا وابعد عنا مثل هؤلاء الناس .
وأحب الصالحين ولست منهم ولله في خلقه شؤون .