الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2024-11-25

12:07 صباحًا

أهم اللأخبار

2024-11-25 12:07 صباحًا

قراءة في كتاب تجربة أولى…”مسرحياتُ التميمي بين القراءةِ والدراسةِ والتمثيل”

02-6

الكاتب الصحفي / يونس شعبان الفاندي

تعد الكتابة المسرحية إحدى الأشكال الإبداعية التي شهدتها الأجناس الأدبية الحديثة، فهي بالإضافة إلى مواضيعها الواقعية والتخيلية المختلفة سجلت تطوراتها الحوارية ومشاهدها التمظهرية تصوير الانفعالات الحسية والحركية بمختلف الأوضاع التي يؤديها الممثلون بلا وسيط في مواجهة الجمهور مباشرةً على ركح المسرح، مع بقية عناصرها التقنية المكملة الأخرى المتمثلة في الديكور والموسيقى والملابس، وهذه كلها تبرز اللمسات الفنية العملية للمخرج وبقية الطاقم التقني، بجانب أداء الممثلين وإتقانهم لأدوارهم ومدى إحساسهم بالنصّ المكتوب وتقمصهم لشخصياته.

وفي ليبيا يزخر مجال التأليف المسرحي بالعديد من الأسماء اللامعة ذات الإبداع المتميز بجودته الفنية وقيمته الفكرية، التي أثرت المسرح منذ بدايات تأسيسه وحتى وقتنا الحاضر موضوعياً وفنياً. ومن بين الكتاب المثابرين الذين أسهموا بالكتابة المسرحية وبرزوا في الآونة الأخيرة الأستاذ محمد التميمي بتأليفه مجموعة من الأعمال المسرحية التي استهلها بمسرحيته الأولى (أحلم خير لك) التي عرضت سنة 2003م ثم (عندما يموت الضمير) و(الوسواس) و(خوذ بنت السلطان) و(اليوم الأخير) و(القهواجي) و(صراع) و(مبيوعة)  ( جثة على الصيف ) و(الصقور والحمائم) التي خص بها مسرح الطفل إيماناً بأهميته في تنشئة جيل المستقبل. 

ومن أبرز الأغراض والموضوعات التي تتناولها مسرحيات محمد التميمي هو تسليطها الضوء على الشأن الاجتماعي بطرحها التحديات المادية والفكرية التي يواجهها الإنسان في ليبيا وأشكال المعاناة المختلفة، وكذلك نقودها الصريحة للممارسات والظواهر السلبية المشينة كالطمع والجشع والرشوة والفساد والانغماس في المتاجرة بالممنوعات مثل المخدرات والخمر، وما يتبعها من سلوكيات منحرفة وأخلاق متدنية وجرائم مختلفة. أما شخصياته فجُلُّها مقتبسة من وقائع البيئة المحلية ومشاهد الحياة اليومية حيث نجد (المرابي، التاجر الفاسد، الأب المقهور، صديق السوء، الزوجة الأصيلة، الشيخ المشعوذ، الإبن المعاق، الأم المظلومة، القهواجي، القاضي… وغيرها).

والأديب محمد التميمي بحكم تخصصه في مجال القانون لا يطرح القضايا الاجتماعية برؤية مجردة من أبعادها القانونية أو دون الرجوع لجذور أسبابها الأساسية الموجودة في ثقافة المجتمع، أو الاكتفاء بعرضها بشكل استعراضي عابرٍ وسطحي مباشر على خشبة المسرح، بل نجده يذهب بعيداً ليبين الخلفيات والدوافع والعقوبات القانونية الرادعة والقاسية التي تطالها، كما ينقل جانباً من أبعادها وأثارها المادية والنفسية القاسية على الفرد، وأضرارها المدمرة التي تسببها للآخرين بالمجتمع، وهو من خلال ذلك يسهم في زيادة التوعية بتلك القضايا والحث على التفكير الجماعي في طرح بعض المعالجات العملية التي يضعها في سياقها القانوني والاجتماعي ويراها مناسبة لجميع تلك الجرائم وموضوعات المشاكل الاجتماعية التي تقدمها مسرحياته، وهذا بلا شك يعزز الدور الإيجابي للنص المسرحي والإبداعي، والوظيفة المهمة التي يعول عليها من المسرح، والمطلوبة كأداة للتوعية والتوجيه والتثقيف بجانب الترفيه والامتاع.

وقد أسهمت المرجعية القانونية للكاتب على التزامه الدقة والتنظيم والتوازن المنطقي العقلاني في طرح القضايا، والتركيز على التماسك الفني والموضوعي لمسرحياته التي تبدو كوحدة واحدة ذات هدف إصلاحي واضح حتى وإن جاءت مقسمة في مشاهد متعددة. ويمكن رصد تأثير أجواء المهنة القضائية وعناصرها في نص مسرحيته (اغتيال الضمير) حين يقول (لن يموت العدل، ولن تنمو أعشابُ الظلم مادام فلاحُ الوطن قاضٍ عادل)، وكذلك دعوته للمسؤولية المجتمعية التضامنية في مسرحيته (اليوم الأخير) حين يقول (آه .. يا صديقي.. الغربة الحقيقية هو أن تكون في وطنك وبين أهلك وناسك، ونهايتك معروفة ومأساوية وأنت والمجتمع تعتبروا الجاني والمجني عليه في نفس الوقت)، ومن خلال هذين الاقتباسين نلاحظ ظهور مصطلحات عديدة تنتمي إلى القاموس القانوني والقضائي مثل (العدل) و(قاض) و(الجاني) و(المجني عليه) وهو ما يعزز القول بتأثير البيئة العملية والفكرية في نصوص محمد التميمي المسرحية.

وطالما أن الخطاب التوعوي الاجتماعي الذي يقدمه المسرح يتطلب لغة خاصة، تجمع بين البساطة والتشويق والجاذبية، وأساسها الوضوح في الكلمة والتدليل بالنماذج والأمثلة المقتبسة من رحم المجتمع وتقاطعها مع بنية النصّ، لضمان وصول الرسالة الاجتماعية عبر الركح للمتلقي بكل يسر وسهولة، بعيداً عن الرتابة والملل والتكرار والخطابة، فقد جاءت اللغة المسرحية عند محمد التميمي بسيطة في مفرداتها وقصيرة في تكوين جملها وعباراتها ومقاطعها الحوارية، تتطعم غالباً بالعامية واللهجة المصراتية تحديداً، مما يبرز تأثير البيئة المكانية والنشأة التربوية والتعليمية في نصِّ الكاتب، وهو ما تؤكده بعض الكلمات أو العبارات المحلية المصراتية المستعملة بالمدينة والتي تتضمنها حوارات ونصوص مسرحياته.

أما الخصائص الفنية لمسرحيات محمد التميمي فيمكن القول أنها تنتمي إلى المذهب الواقعي حيث استلهمت مواضيعها وشخصياتها وأحداثها وأمكنتها من قصص ووقائع المشاهدات المعاشة في الوسط الاجتماعي المحلي، وقد وجد الكاتب في الأمثال الشعبية الليبية خيرَ زادٍ، ومنهلاً كبيراً وظَّفه ببراعة متقنة بما يتوافق مع مضمون النص المسرحي الذي تجسده، والرسالة التي يسعى لتوطينها في المتلقي، كما عمل على إثراء نصه الإبداعي بالعديد من الأجناس الفنية الأخرى لضمان وصول رسائل المسرحية للمتلقي، فنجدها تتضمن الشعر الشعبي والحكاية والقص، والأغنية مثل أغنيته (والشر ديما سيّبه .. وانهوا عليه أولادكم)، وغيرها من العناصر الفنية الأخرى.

ولم يكتفي الأديب محمد التميمي بالتأليف المسرحي فحسب دون توثيق نصوص مسرحياته، والمساهمة في تسليط الضوء على بعض الجوانب الفنية المهمة ذات الارتباط الأساسي بالمسرح، بل أصدر كتابه (التجربة الأولى) الذي جاء في حوالي مائة صفحة من الحجم الصغير، وثق فيه نصوص ثلاثة مسرحيات صنفها في تخصص (المونودراما) أي الممثل الواحد، وهي (الضمير) و(المفاجأة) و(التقرير)، وقد اختار هذا التخصص المسرحي الدقيق لكونه لا يتوفر أو يتجسد في المسرحيات الليبية كما يقول الأستاذ عبدالكريم الدناع والأستاذ منصور بوشناف في مقدمتيهما بالكتاب. فالأستاذ الدناع يصف مغامرة الكتابة المسرحية عند محمد التميمي باقتحام منطقة النار الصعبة حين يقول (يقتحم التميمي منطقة النار، ويبدأ تجربته في التأليف المسرحي بالأصعبين: “1- مسرحية الممثل الواحد”، و”2-مسرحية اللسان الدارج”)، بينما يؤكد الأستاذ منصور بوشناف بأن (تجربة التميمي هذه بداية في الطريق الصحيح من أجل مسرح يعيش هموم وطموحات مجتمعه بصدق وعمق شديدين.)

أما صاحب التجربة الكاتب محمد التميمي فيسرد في مبتدأ كتابه (التجربة الأولى) قصة بدايات ولوجه عالم الكتابة المسرحية فيقول (.. وجدتُ نفسي وبتحريض من أحد الأصدقاء الذين عشقوا الفن عموماً، والمسرح بشكل خاصٍ وجنوني، وهو أخي الأصغر “صبري أبوشعالة” الذي كان وراء تحريضي للغوص في بحر مليء بالجواهر واللآلي الثمينة ألا وهو “الكتابة المسرحية”. فالمحبون للفن المسرحي من ممثلين ومخرجين يعانون من الفقر والعوز في فن اهتم به غيرنا من سنوات كثيرة ولم يلق أي اهتمام لدينا، إنه “فن المونودراما” الذي تأكدتُ ومن خلال المتابعة والاطلاع بأن هذا الفن يعاني من شيء اسمه عدم الاكثرات. ويضيف شارحاً وموضحاً ذلك بالقول (يصعب على أي متتبع للفن المسرحي في بلادنا أن يقول بأن “المونودراما” قد نالت ما تستحقه من اهتمام، حيث لم يعرف المتفرج والمشاهد في بلادنا هذا اللون من النصوص المسرحية إلاّ في حالات تعد على أصابع اليد الواحدة، وقد يكون ذلك بمحاولات فردية من بعض العاشقين لهذا الفن “القديم الجديد”.).

ويختتم استهلاله قائلاً (قبل أن أنهي كلماتي حول “التجربة الأولى” أدعوكم لقراءة تجربتي في عالم المونودراما، آملاً أن تجدوا في هذه المسرحيات التي أقدمها شيئاً من المتعة أو تحرك فيكم رغبة كامنة لتخوضوا معي تجربة جديدة ..)

واستجابة لهذه الدعوة الكريمة حظيت مؤخراً مسرحيات محمد التميمي بالعديد من القراءات والدراسات الجادة التي قدمها أساتذة أكاديميون متخصصون في الأدب والنقد، من بينها الأطروحة الجامعية المعنونة (الوطن في المسرح الليبي: مسرحيات محمد عامر التميمي أنموذجاً) وهي دراسة نقدية تحليلية في ضوء منهج التحليل التفاعلي قدمتها الطالبة زينب علي الهاشمي أبوجناح تحت إشراف الدكتورة هدى العبيدي بأكاديمية الدراسات العليا بطرابلس لنيل درجة الماجستير في الأدب والنقد خلال سنة 2023م، تتبعت فيها الباحثة مظاهر فاعلية النصّ وتأثيره في المتلقي، ثم فاعلية المتلقي نفسه في التفاعل مع النصّ المسرحي وتحليله وفق مناهج النظريات النقدية.

كما قدم الدكتور محمد علي عبدالوهاب بيومي عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة بنغازي بحثه الموسوم (البعد الوطني وجماليات التلقي في النص المسرحي الليبي “مسرحية اغتيال الضمير للتميمي أنموذجاً”) إلى الملتقي الوطني للأدب والنقد في ليبيا المنعقد تحت شعار (تمثلات الهم الوطني في الخطاب الأدبي الليبي) في دورته الرابعة المنعقدة بجامعة طرابلس في ديسمبر 2023م تناول فيه البناء الدرامي لمسرحيات محمد التميمي من حيث الحدث والحبكة والشخصيات الرئيسية البطلة والثانوية والعدمية، وغيرها من الجوانب الفنية للمسرحية التي اختار تشريحها ودراستها نقدياً.

كل هذه الجهود النقدية الأكاديمية البحثية الجامعية تجعلنا -رغم يقيننا التام بأن الكتابة في الأدب المسرحي هي عمل تمثيلي تطبيقي تفاعلي بالدرجة الأولى- نؤكد على القيمة الموضوعية لمسرحيات الكاتب محمد التميمي الهادفة، وبالتالي اهتمام البحاث والدارسين بها لاكتنازها العديد من المضامين الاجتماعية الموضوعية، والجماليات الفنية والحوارات والمناقشات المثمرة للعديد من القضايا الاجتماعية المهمة والحساسة، والتي جميعها تمنح المسرح حضوراً وألقاً وأهمية في حياتنا الاجتماعية والأدبية والفكرية.

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة