هوة جديدة، وسجال آخر برز على سطح الحياة السياسية في ليبيا، حيث عاد الخلاف مرة أخرى بين مجلسي النواب والدولة، وهذه المرة حول إقرار موازنة عام 2024.
الخلاف حول الميزانية يبدو أنه على أشده بين مجلسي النواب والدولة حتى وصفه البعض بالصراع، وبدأ الأمر بإعلان مجلس النواب دعوته لأعضائه حضور جلسة لإقرار قانون الميزانية.
بداية الاعتراض
واجه هذه الدعوة رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة بخطاب لرئيس مجلس النواب، بضرورة عدم إقرار الميزانية قبل الرجوع لمجلس الدولة ومناقشتها والموافقة عليها، مهددا بالطعن عليها، إلا أن النواب لم يعر اهتمامًا للمراسلة وتم اعتماد الميزانية وإعلانها.
من هنا بدأ تكالة في نصب حلبة الصراع، حيث وجه خطابًا للجامعة العربية بتعليق المشاركة في اجتماع القاهرة، وهو ما لم يتم تنفيذه إذ أنه أكثر من 50 عضوًا من مجلس الدولة وصلوا القاهرة مساء أمس للمشاركة في الاجتماع المزمع عقده مع أعضاء من مجلس النواب.
لم يكتفي تكالة بذلك، بل وجه خطابًا إلى مصرف ليبيا المركزي يطالبه بعدم تنفيذ قانون الموازنة متهما مجلس النواب باتخاذ قرارات بشأن قانون الميزانية، بالمخالفة لنصوص الاتفاق السياسي الليبي التي تقضي بقيام الحكومة باعتبارها الجهة المختصة بعرض مشروع قانون الميزانية على المجلس الأعلى للدولة لإبداء الرأي الملزم فيه، ومن ثم إحالته إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره، وهو ما لم يقع.
كما حمل رئيس المجلس الأعلى للدولة محافظ المصرف المركزي المسؤولية القانونية والتاريخية والأخلاقية على تداعيات سياسية واقتصادية تفاقم من أزمة البلاد وتوسع من هوة الخلاف، وآثارها على الاستدامة المالية للدولة.
وللمرة الثانية وجه تكالة خطابًا لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح يؤكد فيه رفضه التام لإقرار مجلس النواب الموازنة العامة بمبلغ غير مسبوق، يقارب 179 مليار دينار، داعيا إلى الطعن على القانون.
وقال تكالة إن جلسة إقرار الموازنة شهدت مخالفات جسيمة ومتعددة، عبر عنها أعضاء مجلس النواب أنفسهم عبر وسائط إعلامية مختلفة، مضيفا أنها عيوب تنحدر بما صدر عن مجلس النواب من أعمال في تلك الجلسة إلى درجة تصل بها حد الانعدام.
واتهم تكالة النواب بالتمادي في تجاوزاته واتخاذه إجراءات وترتيبات إدارة الشأن العام بإرادته المنفردة، منبها إلى أن ذلك لن يقود إلا إلى مزيد الانقسام والهدر للموارد والمقدرات العامة.
وشدد على أن مجلس الدولة لا يعتد بما نتج عن جلسة النواب الأخيرة من مقررات، ويعدها غير ذات أثر قانوني، لعدم استيفائها لقواعد إقرار قانون الموازن، طبقا للتشريعات النافذة، حسب تعبيره.
وفي سياق ذي صلة كشف عضو المجلس الأعلى للدولة فتح الله السريري، عزم المجلس الطعن القضائي على الموازنة، وفتح باب الترشح لتشكيل حكومة مصغرة موحدة، وتعيين المناصب السيادية.
النواب يرد
في المقابل رد رئيس مجلس النواب على خطابات تكالة وأكد أن البرلمان هو صاحب الاختصاص في إقرار الموازنة دون غيره من المجالس الأخرى، مطالبا رئيس الأعلى للدولة بالإشارة إلى نص قانون واحدا يعطي مجلسه صلاحية إقرار الموازنة العامة.
وأوضح صالح أنه “وفقا للاتفاق السياسي فإن مجلس النواب هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد في المرحلة الانتقالية”، وأن “مجلس النواب المنتخب يتولى في يونيو 2014 السلطة التشريعية في المرحلة الانتقالية ومنح الثقة لحكومة الوفاق الوطني واعتماد الموازنة المقدمة من الحكومة”.
وأضاف أن هذه النصوص تخلو من الإشارة لمشاركة مجلس الدولة في إصدار قانون الموازنة، علاوة على أن معظم الدول ذات الأنظمة البرلمانية يكون مجلس النواب هو صاحب الاختصاص في إقرار الموازنة دون غيره من المجالس الأخرى.
ولفت صالح إلى أن مجلس الدولة لم يشارك منذ 2015 في إعداد الميزانية أو مناقشتها أو إقرارها، الأمر الذي يؤكد عدم وجود أساس صحيح من القانون لما يطالب به تكالة حتى طبقا للاتفاق السياسي الذي عفا عليه الزمن ويجب مراجعته، حسب رئيس مجلس النواب.
وانتقد صالح مراقبة جسم غير منتخب لجسم منتخب، مؤكدا أن هذا الأمر يشكل عائقا أمام عمل مجلس النواب.
المنفي دخل لخط السجال
السجال بين المجلسين لم يقف عند هذا الحد، بل دخل على الخط رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، إن إقرار قانون للميزانية الموحدة يتطلب ضرورة توفر ثلاثة اشتراطات دستورية متلازمة تتمثل في وجود مقترح مشروع للقانون مقدم من السلطة التنفيذية لاختصاصها في ذلك، وتشاور السلطة التنفيذية مع المجلس الأعلى للدولة قبل إحالة القانون إلى مجلس النواب الذي يجب عليه التصويت لإقرار القانون بعدد 120 نائباً، إضافة إلى التوافق بين ممثلي المؤسسات الوطنية المعنية بتحديد أولويات الإنفاق العام، داعياً إلى مزيد من الحوار بالخصوص.
ودعم رأي المنفي مستشار المجلس الرئاسي للشؤون التشريعية زياد دغيم الذي أشار إلى أن الاتفاق السياسي وملحقه خارطة الطريق هما جزء من الإعلان الدستوري، وبالتالي فهو ملزم بموجب قرارات مجلس الأمن.
وأوضح دغيم في تصريحات صحفية أن المادة الثانية من الأحكام الإضافية للاتفاق السياسي نصت على أن: “تلتزم السلطة التنفيذية التشاور مع المجلس الأعلى للدولة في مشاريع القوانين قبل إحالتها للبرلمان”، كما نصت أما المادة 9 فقرة 5 على أن منح الاختصاص للسلطة التنفيذية حصرًا في إعداد مشروع قانون الموازنة.
شبهات اعتماد الموازنة
الصراع بين النواب والدولة الذي برز على الساحة السياسية كان له العديد من ردود الأفعال في الشارع الليبي والتي تباينت أيضا بين مؤيد ومعارض، حيث رأى المحلل السياسي بدر الغاوي، أن ما أقدم عليه مجلس النواب هو إجراء تشوبه الشبهات والتي تتمثل في عدم إعلان عدد حضور الجلسة أو عدد من صوّت فيها لصالح إقرار مشروع الميزانية، في حين أن القانون ينص على وجوب أن يصوت 120 نائبا بالبرلمان لصالح القانون.
وأضاف أن من بين شبهات اعتماد الموازنة أيضا أن إقرار ميزانية ضخمة تعد الأكبر في تاريخ ليبيا يعد جريمة في ظل وجود حكومتين، مقترحا توحيد الحكومتين قبل أن تخصص ميزانية.. لأن تخصيص ميزانية لتصرف منها حكومتين يعد أكبر أوجه الفساد المالي الصريح.
موازنة مستوفية الشروط
في المقابل بدوره، قال المحلل السياسي فيصل أبوالرايقة، إن إقرار الموازنة جاء بعد استيفاء الشروط والمتطلبات الواجبة مثل التنسيق بين لجنة الموازنة في مجلس النواب وأعضاء لجنة المالية في حكومة الوحدة الوطنية والحكومة الليبية، إلى جانب مشاركة محافظ مصرف ليبيا المركزي فيها.
فيما اعتبر المحلل السياسي محمد محفوظ، التجاذب حول صلاحيات المجلسين مجرد عنوان فصل جديد من خلافاتهما حول تقاسم المال والسلطة، مبينا أن “إبرام صالح اتفاقاً منفرداً مع محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، على تمرير ميزانية مقدمة من حكومة حماد، رغم عدم الاعتراف الأممي بها، يعني تحقيقه انتصاراً معنوياً، وفرض إرادته ومجلسه على الجميع”.
الشعب الخاسر الأكبر
وذهب أستاذ القانون العام خيري الشيباني، إلى تحليل رد صالح الذي أكد أنه كان متوافقًا في شطره الأول مع الاتفاق السياسي، إلا أنه كان مخالفا للاتفاق في الجزء الثاني، موضحا بأن الاتفاق السياسي أعطى مجلس النواب سلطة اعتماد الموازنة دون شراكة مع مجلس الدولة، معقبا إلا أن هذا لا يعني أن مجلس الدولة ليس شريكًا في بقية القوانين.
من جانبه رأى الناشط السياسي، أحمد التواتي، أن البنود التي تدعو للتشاور بين المجلسين، كانت تحديداً في قضايا الاستفتاء والانتخابات والمناصب السيادية، مضيفا أن الشعب هو الخاسر الأكبر في سعي المجلسين لتحقيق مصالحهما الضيقة عبر هذا الجدل حول الصلاحيات، والتشكيك بصحة الموقف القانوني للطرف الآخر.
ووصف التواتي هذه الإجراءات بأنها محاولة مكشوفة لتعطيل الانتخابات، التي ستنتج سلطة تشريعية جديدة تنهي وجود المجلسين، ومعضلة ازدواجية التشريع الراهنة.
ما بين الرفض والقبول والتجاذب السياسي حول قانون الموازنة يبقى الشارع الليبي هو سيد الموقف وأمله في توفير أبسط الاحتياجات والحصول على سيولة في المصارف وتوفير الخدمات الأساسية هو أقصى ما يطمح له المواطن اليوم.
شارك هذا الموضوع:
اكتشاف المزيد من New Jetpack Site
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.