دراسة مستفيضة للدكتور الباحث في الأدب قريرة زرقون
الأستاذ الدكتور قريرة زرقون نصر رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة طرابلس .. باحث جاد في الثقافة الليبية أصدر مجموعة مهمة من المؤلفات (( الاتجاه الرومانسي في الشعر العربي بالمغرب _ الاشعار المغناة _ مقالات وأحاديث _ وكتاب الحركة الشعرية في ليبيا في العصر الحديث الذي صدر عن دار الكتاب الجديد ببيروت في مجلدين ليؤرخ للحركة الشعرية في ليبيا ويترجم لعدد من الشعراء الليبيين )) … هذا المبحث الذي استقيناه للدكتور أطروحته المقدمة لنيل درجة لدكتوراه في الآداب وبتقدير ممتاز نالها والحمد لله عن كلية الآداب جامعة عبد الملك السعدي بتطوان . اتسمت الدراسة بالموسوعية والعمق، درست الشعر الليبي بمختلف ألوان طيفه ، من المدرسة التقليدية إلى المدرسة الحديثة.
قبل الخوض في ماهية الأدب الشعبي عموماً، والأدب الشعبي الليبي خصوصاً، لا بد أن يعرف القارئ أن الأدب الفصيح كان شعبياً قبل مجيء نخبة من علماء العربية الذين قعدوه، أي وضعوا له قواعده النحوية، ومن هؤلاء العلماء: أبو الأسود الدؤلي (69هـ)، الذي وضع علم النحو بإشارة من علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- بعدما سمع الأقوام من غير العرب الذين دخلوا الإسلام حديثاً يلحنون في القرآن الكريم، فأبو الأسود الدؤلي فرق بوضع علم النحو بين الفعل والفاعل والمفعول به، وكذا فرق بين المبتدأ والخبر، ووضع علامات الإعراب من ضمة وفتحة وكسرة وسكون، وكذا شدة وتنوين، وتلاه نصر بن عاصم الليثي (ت 89هـ)، الذي كان له قصب السبق في وضع النقاط على الحروف، فقد كانت الكلمات تُعرف من سياق الجملة، فمثلاً تُكتب كلمة (متاع) و(مُباع) دون نقاط، الأمر الذي يدخل القارئ في دائرة التخمين والترجيح، فبوضعه النقاط على الحروف استوضحت الكلمات، وانتهى الترجيح في العبارات، وأصبحت الألفاظ ذات مسارات وقواعد ثابتة، ومن بين هؤلاء العلماء الرواد نذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ)، والجاحظ (159هـ) وغيرهم.
وبمجيء هؤلاء الثلة العالمة، أصبحت العربية ثابتة الأركان، مفهومة عند الأقوام غير العربية، بسبب القواعد التي سنوها، لكن تلك القواعد أمست حكراً على المتعلمين من دون الشرائح غير المتعلمة، وأضحى الأدب أدبين، أدب الخاصة، وهم من يعرفون القواعد النحوية، وأدب العامة الذين يتكلمون بفطرتهم، وبحسب ما تعلموه من بيئتهم، واستمرت هذه الحال منذ ذلك الزمن الغابر إلى يومنا هذا.
وقد تنوع الأدب الشعبي في البلدان العربية، كما تنوعت اللهجات العربية قبل الإسلام وبعده، فكان لكل قبيلة لهجتها التي تميزها عن غيرها، فلقيس لهجة، ولتغلب وقريش وتميم لهجاتها وهلم جرّاً، ومن خلال تنوع اللهجات تنوع الأدب الشعبي، وبخاصة الشعر منه، وهذا ما رصدناه في الشعر الشعبي الليبي، عند تتبعنا للألفاظ وكيفية نطقها.
وبعد هذا الإحاطة الموجزة عن الأدب بشقيه الفصيح والشعبي، لا مشاحة في التعريف بالأدب الشعبي، فهو: الأدب الذي يعكس الصورة الصادقة والنقية لنفسية الشعب الذي ينتمي إليه، وهو لا يعيش ويزدهر إلا في بيئته التي نشأ فيها، وبمعنى آخر لا يمكن دراسته وتقييمه إلا من خلال البيئة التي نما فيها.
ومن تعاريفه أيضاً، أنه ذلك الأدب الذي يرتبط ارتباطاً عضوياً بقضايا الشعب، وينبع من داخله، ليعبر عن أحاسيسه ومشاعره في مناحي حياته.
وهو المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية لحياة مجتمع من المجتمعات، وهو شكل من أشكال الإبداع الشعبي المتعدد، وكذا هو فن القول الذي تنتجه جماعة شعبية يتناقله أبناؤها بوصفه ذخيرة مشتركة مشاعة.
والأدب الشعبي الليبي ينقسم إلى قسمين اثنين، مثله مثل الأدب الفصيح ، هما:
الأدب المرسل أو النثر ويشمل الحكايات الشعبية، وهي عمل أدبي يتم تناقله من جيل إلى جيل شفهياً، وترتبط بالعادات والتقاليد.
ويشتمل الأدب المرسل على الأساطير من مثل: الخوارق التي تنحدر من خرافات يغلب في نسيجها القص، باعتبارها المحرك الأساس للأحداث، كما يشتمل على الأمثال الشعبية من مثل: (العين بصيرة واليد قصيرة)، ويضرب هذا المثل في حالة العجز عن فعل الشيء.
ويدخل في باب النثر الشعبي الليبي الألغاز، من مثل: (الحي يكركر في الميت.. والميت مالي زنداحه.. ما تسمع من خوك المؤمن.. غير اعياطاته وصياحه)، فاللغز يرصد حالة السقاية على البئر، فالحي : هو البعير الذي يقوم بسحب الدلو من البئر عن طريق الحبل، والميت: هو الدلو الممتلئ بالماء، وأخوك المؤمن هو: الشخص الذي يقوم بانتشال الدلو عند بلوغه فوهة البئر، فينادي رافعاً صوته إلى حادي البعير، ليتوقف معلناً إمساكه بالدلو.
كما يتضمّن النثر الملاحم من مثل: ملحمة السيرة الهلالية، أو هجرة قبائل نجد والحجاز إلى الشمال الأفريقي.
الشعر وهو الأدب الموزون، ويشتمل على الأغاني التي تصاحبها الآلات الموسيقية والدفوف، من مثل: المرزقاي، نسبة إلى مدينة مرزق في أقصى الجنوب الليبي التي كان ينتشر فيها هذا اللون من الغناء، قبل أن يعم بقية الأرجاء، ويضم كذلك أغاني الأفراح التي تشترك فيها مجموعة من الآلات الموسيقية، ويغنيها مجموعة من الأفراد، وقد يغنيها شخص، وترد المجموعة لازمة الأغنية بين مقطع من الأغنية ومقطع آخر، من مثل أغنية: (عيني عيني على مشكاي.. تبكي اتبكّي كل زول امعاي).
- يشتمل الشعر على أنواع عديدة من الغناء، لكل منها طريقته في الإلقاء ومنه:
غناوة العلم: وهي لون من ألوان الشعر الشعبي، كلماته قليلة معدودة، وعادة ما تفتتح به جلسات الأفراح، وهناك من يسميه قصيدة البيت الواحد، ويسميه البعض بصوب خليل، ومن نماذج شعر غناوة العلم هذه الغناوة: (داووا العين يا جارحينها.. مريضه قريب تغلب)، ويتم إلقاؤها على النحو التالي: يا جارحينها يا جارحينها تكرر عدة مرات، ثم يتبعها بمريضه مريضه مرضيه قريب تغلب، ثم يكمل بقية الأغنية: داووا العين داووا العين يا جارحينها.
المجرودة: وهي عبارة عن قصيدة غالباً ما تشتمل على قصة، وعادة تبدأ بالترحيب بالراقصة، يلقيها الشاعر واقفاً مع ترديد المجموعة الواقفة خلفه لازمتها، وتنتهي بالشتاوة.
الشتاوة: وهي لون من ألوان الشعر الشعبي في ليبيا، تقال عادة بعد المجرودة، وتبدأ ببيت من الشعر الخفيف من شطرين، بحيث تأخذ المجموعة الأولى الشطر الأول، وتأخذ المجموعة الثانية الشطر الثاني، وتؤدى على إيقاع التصفيق بالكفوف، مثل: (الخاطر يا خوتام يديه.. انظر حالاته روف عليه).
ضمة القشة: وهي فن شعبي يؤدى بصوت مرتفع، وتمتاز بالبلاغة والاختصار والتعبير عن معان كبيرة في عدد قليل من الكلمات.
الطق: جاءت تسميته من الطرق على الأواني الخشبية، (القصعة)، وهو عبارة عن قصيدة شعبية تطول أو تقصر لها لازمة، هي بمنزلة المحور الذي تدور حوله الأبيات المتعددة، من مثل: (يقهرْ في لانظارْ بشوقهْ.. سمحْ التوقهْ.. جرحه مو عاطهنْ روقهْ).
الرباعيات: تتكون من بيتين من الشعر الشعبي، صدر وعجز، صدر وعجز، تغنيها النسوة حكراً على الرحى عند طحن الحبوب، ومن نماذجها:
لو كانها بالتمني.. كل عين تاجد مناها
ومن عيدها بالمكاتيب.. تصبر على ما عطاه
وهناك أنواع أخرى من الشعر الشعبي تختلف في ألحانها وطرق تناولها، يضيق المقام عن ذكرها نتيجة لمحدودية المقال، فلو أطلقت العنان لقلمي لكتبتُ فيها الصفحات، وملتْ أناملي من رقش العبارات.
شارك هذا الموضوع:
اكتشاف المزيد من New Jetpack Site
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.