رثاها قبل 18 عاما من وقوع الفاجعة، هو ابنها تنبأ بمصيرها وحذر منه، دعا من خلال قصائده وكلماته للالتفات إليها، ولكن صوته الصادح لم يكفي لكشف الصمم الذي أصاب آذان المسؤولين.. إنه الشاعر مصطفى الطرابلسي.
الطرابلسي عشق ترابها صباحاتها وغروب الشمس فيها، كان يتنغم بشوارعها وأزقتها وجدران مبانيها، وعندما اختفت هذه الملامح كان وأسرته أحد الضحايا.
ودع الدنيا دون أن يرى ما تنبأ به واقعًا، وكأنه كان يخشى في قصائده أن يواجه هذا اليوم الذي يفقد فيه عشقه لملامح مدينته، فأبى القدر أن يجعله يتألم هذا الألم.
الطرابلسي رأى النور في درنة عام 1979، ورث عن جده مؤرخ درنة محبة المدينة وعشقها والذي دفعه لتسمية كتابه “درنة الزاهرة”.
ملازمته لجده والقراءة له جعلته مولعا بالاطلاع ونال منه ثقافة واسعة في التراث العربي بشكل خاص.
عشق الطرابلسي لدرنة جعله يرى أن في خروجه منها لطرابلس أو لأي مدينة أخرى هو الغربة بحد ذاتها، حيث قال “تناسلت من بعده الأجيال تلو الأجيال في درنة، دون أن يراود أحدنا شعور بالغربة؛ بل الغربة شخصيا تكمن حين أزور “طرابلس” فأحس كأني “غريب الوجه واليد واللسان “.
من فرط محبته لدرنة فسر المثل الشعبي القائل “ما تلقى ثوب إلاّ في درنة” بأنها الحاضرة الثانية على امتداد “برقة”.
الطرابلسي كتب الشعر بالفصحى والمحكي، إلى جانب تجربة في القصة والنقد الأدبي، وله العديد من القصائد عن درنة تاريخيا وواقعا اجتماعيا، واشتهرت له مجموعة قصائد اعتبرت فيما بعد دليلا على بصيرة قوية بشأن ما آلت إليها المدينة.
درنة انتهت وتريد من يرثيها
ومن بين أشهر قصائده عن درنة قصيدة كتبها في 2006 قال في مطلعها يقول:
عظم الله يا خوي أجرك فيها … درنة انتهت وتريد من يرثيها
درنة كانت.. طفلة جميلة بالدلال ازدانت
من ظلم ياما ومن مصايب عانت.. التاريخ يفخر وين ما يطريها
ويختم بالقول:
خلاص انتهت وقول السلام عليها
كان سكان درنة يرددون مطلع قصيدته في حياتهم اليومية، وكانت لا تفارق ألسنتهم عند وقوع أي حدث سيئ في المدينة، مستائين من وضعها ومتهكمين على مسؤوليها قائلين: “عظم الله أجرك فيها، درنة انتهت وتريد من يرثيها”، حسب أصدقائه.
وقبل أيام من الفاجعة كتب على صفحته الشخصية تُرى هل ستكون هذه القصيدة نبوءةً صادقة وراء كل حدث تصاب به درنة ؟ وذاك من شؤم طالعي، وبؤس فألي!!. أمْ سيكون لدرنة قصيدتها التي ستكتبها بذاتها، ولا أحد يلقيها على منصة الوطن غيرها؟
وفي نص نثري آخر قال في بدايته:
المطر يفضح الشوارع الرطبة والمقاول الغشاش والدولة الفاشلة
وختم النصر النثري بالقول
المطر شارة خير بشارة رِفد وناقوس خطر
ندوة حول الوادي ومخاطر إهماله
وقبل ثلاثة أيام من الكارثة كتب على صفحته الشخصية صرخة على “وادي درنة” لكنْ فيك ياوادي!!
وأضاف من منا لم يطرب وجدانه مع غزل “حسن السوسي” بمدينة درنة، وخصوصا حين يقول: ثلاثة لم تزل كالوشم باقيةً… بطحاءُ واديك والشلال والجبل
وختم تدوينته بالقول أقيمت بالخصوص ندوة ببيت درنة الثقافي ..حول موضوع الوادي ومخاطر الإهمال لم يتجاوز حضورها العشرين، وقال فيها المختصون كلاما خطيرا حول الكارثة المرتقبة، ووجهوا تقريرا لكل الحكومات، لكن على ما يبدو لا أحد يهتم إلا بعد وقوعها!!
كان الطرابلسي في قصائده عن درنة يتغزل بحبات ترابها وسهولها ووديانها وشلالاتها وعيونها، كان يعبر عن ولعه برائحة أرضها من خلال جمل يخطها وكلمات يصدح بها.
اعتذار لدرنة
الطرابلسي كان يعتبر شغفه بدرنه واهتمامه بها واجب، حتى أكد ذلك في إحدى قصائده التي كتبها بعد قصيدة الرثاء وقال فيها
ولما رثيتك ما هي مهانة ولا هي شماتة فيك
قليل أصل من ينكر اللي رباته
انتي أنا ومن حقي نخاف عليك
وأنا عاشقك واسمك عجايب درنة
في ليلة الفاجعة كتب على صفحته الشخصية يقول عن اللحمة الوطنية: “( لا أحدَ يستطيعُ إلاّ أنْ يُعجبَ بهذا النسيج الليبي المتوائم، وهذه النخوة الليبية التي تبانُ عند كل شدة، ومن قال :إنَّ ليبيا ليست واحدة؟!.)”
تركتنا روح الطرابلسي مع هذه الفاجعة ولكن عطاءه وتاريخه سوف تتناقله الأجيال وتذكره كلما ذكر اسم درنة الجريحة.
تحرير – هدى الغيطاني
شارك هذا الموضوع:
اكتشاف المزيد من New Jetpack Site
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.