الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-03-09

4:21 مساءً

أهم اللأخبار

2025-03-09 4:21 مساءً

تقانات سيميائية في أشعارنا الشعبية الليبية

الناقد . نور الدين الورفلي

الناقد . نور الدين الورفلي

الشاعر ضو الميلوسي رعاه الله وأعانه .. هو من كبار شعراء المنطقة الغربية ومن فحول شعراء ليبيا هذا الشاعر، يستأهل الوقوف عنده، خصوصاً في تقاناته السيميائية ومعرفته بالتاريخ العربي، كونه كان معلماً للتاريخ في بداية شبابه، وربما حتى هذه الساعة، رغم تقاعده، ما يهمني هنا هو رصد بعض من أبياته المليئة بالإشارات والمكتنزة بالدلالات؛ وكنت اخترت في منشورات سابقة بعض من قصائده المحكمة البناء، ولعلي هنا مضطر إلى اختيار أبيات أخرى له، من قصيدة طويلة جداً، بعيدة عن الشأن السياسي، تهتم بموضوع المكان، وتفجر الأحاسيس تجاهه، من خلال شعر واصف لأدق التفاصيل الصغيرة، نهاية بالتفاصيل الكبيرة، لمكان هو الوطن باتساعه الصحراوي والحضري على حدٍ سواء، يدخل ضو الميلوسي مباشرة بقريحته متسائلاً وواصفاً لنوع من الكمأة واضعاً تساؤلاته حول الصدفة التي رمت به، أو رمت آخرين إليه، أو بالأحرى جعلت من الإبل تأكله، وهي تعافه، ثم يبدأ في تشريح التفاصيل للنباتات المنتشرة في المكان، لكي يخلق نوعاً من البلاغة في التشبيه، بغية الإشارة إلى مدلول العلامة في شكل جمالي محدد، من الواضح أنه يُلَوِّح به إلى تفاصيل جمالية يعرفها هو دون غيره، ثم يتباهى بوصف المكان وأشجاره، ووروده وزهوره، وحيواناته، وروعة نسيمه، تفاصيل تستنطق الحجر في سردها قبل أن تبدأ في تذويبه إلى لوحات تشكيلية جمالية صعبة حتى على متخصص الرسم، لاحظوا معي:

رماها عليك الوقت يا ترفاس….. اللي نارها فوق الخدود اخراص.1.

(،،،،،)

اوين رعدها نزّل اشبوب امطار….ودنكس سحابه مستوي دلهاس.2.

اوين البراري تموج بالنوار….تبري عليل النفس م الوسواس

اوين الرتم هندل نشوقه صار…ورود في جناين صاينه عساس

وفي وين ماسروس الريم اصغار…. جديه غفي راقد حذاه انعاس.3.

وتلعب عصافيره على الازهار…فضاء موسعه ما مالوثوه اقفاص

وطير الحجل والقبرة وحبار….. والكيروان بلوغته نصاص

اسراب هاجرت لا تاركه الاوكار….من وطنها معنف اشتاه اقراص

من القطب من وين الجليد احجار….من الأرخبيل وجزر بالفيناس4

ثم يعرج على الإبل، فيغرد:

وسود المناسم سمحة المنقار… رفيقة بقر الوحش والخولاس

اتشم العفى من مشي كم نهار… للها طبايع عرقها دساس

خواوير تتهيرع اسماح اوبار….تجلي على اللي حايساته اغصاص5

ويرزم فحلّها يدقل دقمار…. كِنه ربابه وترها حساس6.

….

واقع الحال أن هذا الشاعر البديع، كنت أترصده هو الآخر منذ ما يربو على الربع قرن من الزمان، وكان في كل مرة يخرس نصي النقدي ولا أقوى على الحراك أمام هيبة كلامه وهسهسة ريشته المرهفة أيضاً في رسم التفاصيل، قصيدته هذه التي قالها في نفس واحد، كانت طويلة جداً، وقد التقطها سماعاً لأنها غير مطبوعة أبداً على وسائط التواصل حسب بحثنا، ولا يوجد بها بيت واحد يستحق الحذف، ونظراً لطولها لا أستطيع أن آتي عليها كلها، وستكون مرهقة أكثر، غير أنني سأضيف هنا عنصرين آخرين للقصيدة، وسأجزئها بشكل مقتضب، مضطراً إلى ذلك. هاتان العنصران هما باختصار، الخيل والمرأة، والكيفية التي تناولهما بها الشاعر:

عرب يركبوا بو صدر ثلث اشبار…. عريض الكفل واصي النصي اسلاس

عرب في الفيافي والبساط قرار….وين العفي ما دايسه ديّاس

زخارف نقوش ورسم ع الفخار….منوع زخارف من الوان انصاص

فوسيفساء من نقش في معمار….بيه ماعبث الدهر لا اللَّماس

تقول في حدائق الاندلس تخضار…. الوادي الكبير وقصر بن عباس

شنهو طواه ع الفكر شنهو صار…..شرود ذهن والا من عميق احساس؟

وماني على فنان بالفرجار ……غابر كلاه الدهر راح ادحاس.7.

…………..

وهكذا إلى أن يأتي على دور المرأة وتصوره لها، في شكل عفوي عفيف ومحتشم، سواءً في تصويره لحشمتها، أو في تبرير موقفه كشاعر يقف أمامها بكل هيبة واحترام، ليجلها في خجلها بكل تقدير لشاعر مرهف الحس خلوق:

أوشام ع اللحايظ ع الجبين قمار…. على وجه غطاه الشعر حلواس.8

خجول مستحي دنكس من الخطار….وخاف م الوشايا من قداهم ناس.9

جبد طرف فوق الوجه حط اخمار…. نضيف النواصي ما هواه ارجاس.

ثم نراه يعود إلى وصف الجواد العربي في نهاية القصيدة فيقول:

وكان عزّها صايل قوي تيار** بو سرز بو بدَات فوق احلاس.10.

منين ينطلس كِنه طليق امجار** دبيك حافره يخلي الوعر هسهاس11.

اتقول جِن كِنه شبح لما دار*** ازرار من حناجر بندقة قنّاص12

أيهيدب كما المريوح عل البندار** مجدوب رافع ورد عل العيّاس13.

اعيونه كما الشهبان تقدح نار** وين ما قفز خلّى النعال فلاس.14.

بعض الكلمات تخرج من الصفحة قافزة نافرة خانقة حتى لكأن القارئ يقفز فاراً منها مشفقاً من لظى نارها الحارقة…

لهكذا أسباب وغيرها، أردت أن أشتغل على المغزى في مسألة اللهجات في شعرنا الشعبي، وكنت قد نشرت حلقات متواصلة حول نفس تيمة اللهجات، ولم يكن هدفي اللهجة في شعرنا الشعبي في حد ذاتها، بالقدر الذي أردت أن أضرب أمثلة للتكنيك في اصطياد الكلمات من الفضاء، وكيف أنها لا تأتي لأي أحد، عدا فرسانها الذين لهم دلال خاص على قلبها، قلب الكلمة التي تخرج في قمة تأثيثها وجمالها الخالص الذي زاده زينة لسان الشاعر نفسه، وارتفاعه في الطيران على مستويات يبقى فيها النقد المعاصر، فاغراً فاه كالأبله تماماً..

لنتابع معاً التفسيرات التي في هامش النص، هي ليست هوامش، بقدر ما أنها معاني لمعاني قد تغيب عن بعضنا بالضرورة فيما يخص لهجاتنا الشعبية :

_________________**

1.  رأس البيت للشاعر الكبير علي الكيلاني، جاء بطريقة أخرى، والمقصود من الكلام، مكان الكي بالنار علامة الوسم، حلقة دائرية، اخراص يعني أقراط.

 2. دلهاس اي مزن أسود داكن مليء بالماء.

3.  جديه غفي أي ان الغزلان المعتادة على الشرود والحذر، والمتوثبة دائماً، نراها هنا في زقزاو، تنام مطمئنة.

 4.الطيور ايضاً جاءت من كل حدب وصوب من القطب المتجمد إلى اسكندنافيا الى الارخبيل وباقي الجزر النائية الباردة، جاءت كلها محتمية بدفئ زقزاو.

 5. تتهيرع اي تمشي بثقة وأنفة، وكذا تركض حيث تشاء وتأكل العشب مطمئنة

 6. يرزم فحلها يدقر او يدقل دقمار، اي متنوع في هديره وغنائه مستعرضاً فحولته.

7.  أوشام ع اللحايظ ع الجبين قمار…. على وجه غطاه الشعر حلواس، هذه لوحة تشكيلية لوجه امرأة ليبية تنافس الموناليزا في دقة رسمها، لولا أن العم ضو هنا فعل بريشته ما لم يفعله أحد شعراً، خصوصاً في الوجه الذي حجبه الشعر بهبة نسيم لوصف شعر مثل الحرير، غطى وجه صاحبته، وسترها، من قداهم ناس يعني اختجل وأحنى رأسه إلى أسفل، يقصد وجه المرأة العفيفة التي يقصدها في هذا البيت تحديداً.

 8. البدات والحلاس ضمن مكونات سرج الحصان في اللهجة الليبية، والسرز هو السرج نفسه..

9. منين ينطلس، يعني حين يندفع بقوة، طليق امجار المعنى “الدلو” حين ينقطع من حباله وهو ممتلئ، فيرجع بقوه إلى الأسفل ليغوص في البئر، وهو تشبيه بليغ في السرعة …، دبيك حافره ايخلي الوعر هسهاس، أي بمعنى أن قوة حوافره من شدة دقها للأرض، تجعل ما هو ناتئ من الصخور التي في الأرض مستوي، الأمر الذي يجعل من ساحة الأرض التي يجري فوقها، رغم أنها وعرة، مستوية تماماً وذلولاً له.

10ـ كنه شبح لما دار، يعني حين تم سحبه بسلاسة إلى الجهة اليسرى للبدء في شوط السباق، الحصان هنا لا ينتظر، بل كأنه لا يحسب الوقت كي ينطلق بسرعة أسرع من الضوء ذاته، لذا شبهه في شطر البيت السابق بطليق امجار وهو الدلو الممتلئ، كما أسلفنا، الذي يقطع الحبل من ثقله، فيرتد بسرعة البرق إلى الأسفل، فقط أن حركة الحصان هنا إلى الأمام، تشبيه فضيع، إضافة إلى شطر البيت المتمم، أزرار من حناجر بندقة قناص، الدوران في الحالتين، الحصان هنا ينطلق مثل طلقة البندقية تماماً، الرصاصة التي كانت في مخزنها ثم ما لبثت أن دخلت بيت النار، وبما أنها ستخرج من السبطانة هنا هي مضطرة أن تخرج وهي في حالة دوران حلزوني الامر الذي يجعلها تخرج من خلاله مسرعة جداً.

11ـ ايهيدب كما المريوح عل البندار، يعني كأنه يجدب ويرقص لا يهدأ أبداً، رغم كل محاولات راكبه في السيطرة عليه، المريوح عل البندار يقصد نوع من الموسيقى الصوفية الجاذبة للروح، تجعل من صاحبها لا يتحكم في نفسه ويبدأ في الرقص، رافع ورد عل العياس، يعني من أتباع الطريقة العيساوية.

12ـ الشطر الأول واضح، أما الثاني وين ما قفز خلىّ النعال فلاس، يقصد أنه من شدة قفزه يقدح، الموريات قدحاً، هنا من القوة بحيث أن الحدوة التي في أسفل حافر الحصان، تهرست وتدشدشت، منتشرة في كل جانب..

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة