الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-07-01

8:37 صباحًا

أهم اللأخبار

2025-07-01 8:37 صباحًا

عن أجنة الأكباد

00

جمعة الفاخري

في حياة الأم ، لا شيء يعلو على مشاعر الأمومة ، ولا نداء يفوق نداءها ، فالأمومة عاطفة فطرية تولد بها الأنثى، تولد مع الأنثى، وتنمو لتصل منتهاها حين تغدو الأنثى أمَّا حقيقية ، وتمتاز هذه العاطفة الإنسانية السامية على غيرها من العواطف الأخرى، بأنها لا تخبو ولا تتقادم ولا تشيخ ، فهي تزداد رسوخا وقوة وعنفوانا كلما تقادم عهدها ، وامتد بها الزمن ، وتتجلى مظاهر الأمومة واضحة حين تغنيها الأمهات تحنانا واشتياقا وتلهفا ، أو حتى خوفا ورهبة وجزعا على الأولاد، الذين تسميهم اللهجة الليبية (جنين الكبد)، فالكلمات هنا لا تعدو كونها مجرد كلمات باهتة، وإنما  هي أحاسيس أرواح دفاقة تنثال بها أشعار الأم التي تنصب – غالبا – في الفنون القولية القصيرة المختزلة ، وذات النفس القصير، كالرباعيات أو غناوة العلم .

وجل الرباعيات الليبية المنسوبة للمرأة، تطفح بعاطفة الأمومة السامية، وتنطق بمشاعرها الصادقة نحو الأبناء، فرحا بهم، أو شوقا إليهم، أو خوفا عليهم، أو تلهفا للقائهم، أو تحسرا على فراقهم، أو بكاء لغيابهم، أو عذابا من عقوقهم،  أو تألما من هجرانهم ونكرانهم.

ومن أمثلة ذلك أن إحدى الأمهات عزمت على الذهاب لأداء مناسك الحج، وكان لها ولد وحيد صغير، فتركته عند بعض أقاربها، وخاطبته مودعة بهذا البيت الشعري قائلة :

بدلت حبك بحب الله يا مضنوني * يا ربيع روحي ، يا دلال عيوني

وفي بعاد ابنها عنها تعصر هذه الأم قلبها اشتياقا، وتذيب روحها توقا إليه؛ فلا علاج لها غيره، وترجو أن ينقلوا له خبر مرضها، بعد أن حال البعد بينها وبينه، وقد عدمت الوسيلة للوصول إليه :

قولوا يا وليد راني مريضه * ولا لي دواء غير زولك

البعد جاء جوبه بعيده * ونا كايده في وصولك

وتظهر هذه الأم حبها الكبير لأولادها، فترفع أكف الضراعة إلى ربها، خالق الطير والحوت بلا أكل ولا رضاعة، بأن ينجي أولادها ويحفظهم، فهم رأس مالها، وكل بضاعتها :

يا خالق الطير والحوت *  لا ميكول لا هو رضاعه

ينجيكم الله يا غوالي * يا حد راس البضاعة

الحنين للولد:

يظل حنان الأم إلى أولادها تيارا جارفا لا يمكن لها أن تقاومه، لذا تحتمل الأمهات كثيرا من أذى الأزواج، وظلمهم وامتهانهم لكرامتهن من أجل أولادهن، فهذه صورة أم يعصف بها الحزن والانكسار، وتتلاعب بها الحيرة والأسى؛ فهي بين نار إشفاقها على ولدها، وخوفها عليه من الضياع على الأرصفة، ونار العذاب الممض مع زوجها الذي يبدو أنها تقاسي منها الأمرين، فلولا هذه الاعتبارات الموانع، لم تحتمل العيب منه، ولم تضيع شبابها معها:

والله لولا العيل * بين الكبابيس كابي

ما نحمل العيب فيا * وما نكسرك يا شبابي

وفي هذه الهجاوة ذات القصة التي تقول: إن امرأة كانت قد كرهت العيش مع زوجها لم ترزق منه بالولد، فضلا عن رقة حاله، وضيق العيش معه، فظلت تطلب الطلاق منه، لكنه كان يرفض تسريحها، ثم رزقهما الله بولد، فرضيت بنصيبها وصبرت على مرارات الحياة معه طاردة من رأسها فكرة طلاقها منه، فما لبث أن بدأ هو من يطلب طلاقها باقتراف كل ما يضايقها لإجبارها على طلب الطلاق منه، فاستلمت يوما رحاها بعد أن ضاقت بها الحال، واشتد إيذاء بعلها لها، ومضت  (ترحي) وهي تهاجي وتقول:

في لوله نجبدوا جبد * وفي التاليه ما رثى لي

وجت بينا قطعة الكبد*   وما بعد لكباد غالي

وإن كانت صاحبة الهجاوة السابقة ترى الولد قطعة من كبدها فإن هذه – بالمقابل – تتمنى أن تكون كبدها حذاء ينتعله ابنها، فإن تعب من المسير توسدها ونام:

نا يا الغالي تمنيت * تمنيت كبدي مداسك

تمشي بها نين تعيا * وتحطها تحت راسك

كما أن بطلة هذه الحكاية الشعبية ترى أن الأولاد (أجنة الأكباد) في كناية مدهشة، فيحكى أن امرأة تشاجرت مع زوجها وكان رجلا فظا لا يطاق، فغضبت منه وتركت بيتها وأولادها، وذهبت إلى بيت أهلها، فمكثت هناك أياما معدودات ثم جاء في أثرها ليعود بها إلى بيتها وأولادها، فضغط عليها أبوها لإرغامها على الرجوع، فعادت معه رغما عنها، وحينما وصلت بيتها جلست أمامه وقالت هذه الغناوة (1)”

لولا جنين الكبد ….  العين ع الجفا ما قدعت

____________________

هوامش :  

  ـ” غناوة العلم بيت شعري مكثف يختزل المرء فيه معتملات أعماقه، وعصارة قلبه، وما تهجس به نفسه من مشاعر وأحاسيس، فهو كبسولة شعرية وجدانية، سريعة ومؤثرة مثل طلقة، سهلة الحفظ كاسم المرء نفسه، وهي – أحيانا – مفرحة كبشرى النجاح، وأحيانا محزنة ككلمة سوء كاذبة، كخبر سيئ، وهي تارة لذيذة سائغة كقطعة حلوى، وتارة مرة كطعم العلقم، كمذاق الهزيمة والفشل والسقوط ..!” للمزيد ينظر مقالنا ” الأجواد في غناوي العلم” صحيفة المأثور الشعبي، العدد 71، السنة، السنة الرابعة، 11 / الحرث 2010م.

*مجتزأ من بحثنا (صورة الأم في الشعر الشعبي الليبي ).

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة