عفاف عبدالمحسن
المزاح هو الدعابة ، وهو نقيض الجد . . والأصل في المسلم أن يكون جاداً لا إلى حد التجهم في وجوه الآخرين ولكن ما يجعله وقورا ، إذ لم يخلق الإنسان ” المسلم ” في هذه الدنيا للعبث واللعب .. والمزاح قد يخرج المرء عن الواجب الذي خلق له، ومن هنا ذُم المزاح، وإنما ذم لما يؤدي إليه من كذب أو ترويع أو استهزاء أو غفلة عن الله وذكره .
قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه ))
والمقصود بالنهي كما قال العلماء الإفراط والمداومة.. فالإفراط في المزاح يؤدي إلى كثرة الضحك التي تميت القلب ” أي تصيره قاسيا مغمورا في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها شيئا من مكروه، وحياته وإشراقه مادة كل خير، وموته وظلمته مادة كل شر، وبحياته تكون قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ويل للذي يحدث فيكذب ، ليضحك القوم ، ويل له ، ويل له، ويل له )) .
———————————–
وهذه حكاية قيل إنها لا تخلو من مغالاة إذ خصصت الأعياد المشروعة للمسلمين للضحك واللعب والأكل والتزاور والتكافل الاجتماعي والتراحم .. فقد مر وهيب بن الورد على قوم نظرهم يضحكون في عيد فطر فقال :
وهيب : إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين .
والمسلم يحتاج إلى قلب حي لا تتسرب الغفلة إليه فيجس صراعه مع الشيطان فقد أقسم الشيطان على غوايتنا .. يقول الحق تبارك وتعالى في سورة ص الآيات ( 83 / 84 ) بسم الله الرحمن الرحيم { فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }
الغفلة هي صفة الكافرين .. يقول تبارك وتعالى في سورة الطور الآيات ( 11 / 12 ) بسم الله الرحمن الرحيم { فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون}
ويقول عز من قائل في سورة الزخرف الآية 83 بسم الله الرحمن الرحيم {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون}
سورة الأنعام في الآية ( 91 ) نقرأ قوله تعالى _ بسم الله الرحمن الرحيم { ثم ذرهم في خوض يلعبون }
يوم القيامة يقال لهم {ما سلككم في سقر} كما ورد في الآية الثانية والأربعين من سورة المدثر فكان من جوابهم الذي ورد أيضا في ذات السورة الكريمة الآية الثالثة والآربعين {وكنا نخوض مع الخائضين} صدق الله مولانا العظيم .
وهذه الغفلة حذر منها السلف أشد الحذر، فلنقف معا على هذه الأقوال من بعض الصالحين نتمعنها :
_ قال أبو علي ( الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أحد الأئمة في علم العربية ) : أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار .
_ قال محمد بن واسع الأزدي ( الفقيه الزاهد البصري ) لأحدهم : إذا رأيت رجلاً في الجنة ويبكي ألست تعجب من بكانه ؟
- الرجل: بلى .
_ محمد بن واسع : فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه.
—————————–
قد يؤدي المزاح حال كثرته إلى قلة الهيبة أو اجتراء السفهاء على المازح، قال عمر رضي الله عنه: “من مزح استخف به”.
وقال محمد بن المنكدر:
محمد : قالت لي أمي: يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم.
وعن سعيد بن العاص أنه قال:
سعيد: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك.
وقال الحسين بن عبد الرحمن:
الحسين : المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للصداقة.
——————————————
قد يسبب المزاح شيئاً من الضغينة فيكون مذموماً ..
_ قال عمر بن عبد العزيز : اتقوا الله وإياكم المزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، فحدثوا بالقرآن وتجالسوا به، فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال .
_ قال خالد بن صفوان التميمي : لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح .. وقوله في مقام آخر : المزاح سباب النوكي ( النوكي هو الأحمق ) .
_ قال الحجَّاج بن يوسف لابن القرِّيَّة *( أيوب ابن القِريّة بكسر القاف وهو أسم أمه وهي خُماعة بنت جُشم بن ربيعة فقد كان يلقب بها، كان ابن القرية أعرابياً أُمياً، عاش في العصر الأموي، وكان يُضرب به المثل في فصاحتهِ وبيانهِ وبلاغتهِ، ووفد على عبد الملك بن مروان، وعلى الحجاج بن يوسف الثقفي فأعجب بفصاحته وجعله من اصحابه )*
الحجاج : (ما زالت الحكماء تكره المزَاح، وتنهى عنه، فقال: المزَاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوَّله فرح، وآخره تَرح. المزاح نقائض السُّفهاء، كالشِّعر نقائض الشُّعراء. والمزَاح يوغر صدر الصَّديق، ويُنفِّر الرَّفيق. والمزاح يُبدِي السَّرائر؛ لأنَّه يُظهر المعَاير. والمزاح يُسقِط المروءة، ويُبدِي الخَنا. لم يجر المزْح خيرًا، وكثيرًا ما جرَّ شرًّا. الغالب بالمزاح واترٌ، والمغلوب به ثائرٌ. والمزاح يجلِب الشَّتمَ صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلَّا عفوٌ بعد قُدْرة . فقال الحجَّاج : حسبك ، الموت خيرٌ من عفوٍ معه قُدْرة)
ويصبح المزاح حراماً إذا صاحبه مخالفة شرعية .. وفيه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسيرون مع رسول الله في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم .. قالوا:
الرجل: ( يضحك) .. أخذنا نبل هذا ففزع ..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً )) .. وقال صلى الله عليه وسلم : ((لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جاداً ولا لاعباً ، وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه)) .
—————————————
قال صلى الله عليه وسلم: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له))
وقال أيضاً .. ((إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها بأساً إلا ليضحك بها القوم فإنه يقع فيها أبعد ما بين السماء والأرض))
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) .
———————————
وقد يمتد المزاح إلى باب كبير من أبواب الكبائر كالاستهزاء ببعض القرآن أو النبي أو الأحكام الفقهية أو العلماء ، كما وقع من بعض المنافقين يوم تبوك حين استهزءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنزل قوله تعالى في سورة التوبة الآيتين ( 64 / 65) : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
حذر الله جل جلاله من مجالسة هؤلاء الذين يمزحون في هذا الباب من الكبائر فقال عز من قائل في سورة الأنعام الآية السادسة والثمانين بسم الله الرحمن الرحيم {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} .
والآية الأربعين بعد المائة من سورة النساء فيها قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معه حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} .