عفاف عبدالمحسن
الصمت سمة من سمات المؤمنين وصفة العقلاء المفكرين فإن أول ما يجب على العاقل المنفصل بصفته عن الجاهل .. أن يتبع الصمت ويميل إليه .. ويستعمله ويحرص عليه ، كما يحث العارف الفقيه أن المسلم العاقل المفكر ” يحرص على مجالسة الرجال ذوي الألباب ، والنظر في أفانين الآداب ، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار، وأن يحسن في السؤال ، ويتثبت في المقال، ولا يكثر الكلام والخطاب ، إن سئل عمّا يعلمه أجاب ، وإن لم يسأل صمت للاستماع، ولم يتعرض لمكروه الانقطاع ” .
قال أبو العتاهية:
لا خير في حشو الكـلام إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينه
الصمت في الإسلام من الأعمال الصالحات بل انه عبادة خاصة فبعض الكلام حين ينطقه اللسان قبل مروره على ميزان العقل أيقال أم هذا وهنا غير موضعه ووقته قد يسبب أذى أو غضب أو فرقة وهكذا يكون الكلام فيه إفساد والصمت أبرك وأقيم وأقوم .. الصمت في رأي وجزم العارفين ” يحمي الإنسان من الوقوع في آفات اللسان ومنكرات الأقوال، ويُمكنه من الحصول على راحة النفس في الدنيا والآخرة ” .
عن أبي بكرة قال : سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : ” اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ، ولا تكن الخامسة فتهلك “
– قال عطاء : رد مسعر : زدتنا خامسة لم تكن عندنا –
_ فقال بكرة : ” والخامسة أن تبغض العلم وأهله ” .
والصمت أحسن بالرجل من الهذر في منطقه ، والكلام فيما لا يعنيه ، والتسرع إلى ما يكون على وجل منه .. قال بعض الشعراء:
يموت الفتى من عثرة بـلـسـانـه وليس يموت المرء من عثرة الرِجل
فعثرته من فيه تـرمـي بـرأسـه وعثرته بالرجل تبرا على مـهـل
أما أبو العتاهية فيقول :
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً فأنت عن الإبلاغ في القول أعجـز
يخوض أناس في المقال لـيوجـزوا وللصمت عن بعض المقالات أوجز
قد أفلح الساكت الصموت كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطق له جـواب جواب ما تكره السكوت
تقول الحكمة المرء مخبوء تحت لسانه .. فيصعب الحكم عليه إن صمت مستمعا ثم رتب ووزن ماسيقول فترك للسانه عنان القول الفصل الراكز فإن اللسان السائب كحبل مرخي في يد الشيطان ، فإذا صمت ولم يتكلم كان من أهل الجنان ، وإذا تكلم وجّهه الشيطان كيف يشاء ومتى أراد ، فكأن المسلم إذا لم يمتلك أمر لسانه الناطق عن أفكاره وصف فمه بجامع النفايات وملقيها في غير مكانها ولا زمانها فماذا عن قلبه ألا يكون محطا للملوثات والمفسدات ؟؟ وما من إنسان عاقل يحب أن يوصف هكذا وصف مشين .. ولنا في رسول الله ومايوصينا في أحاديثه الهادية قدوة واعتبارا إذ قال عليه الصلاة والسلام : ” لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه “
ومن هديه صلى الله عليه وسلم : أنه قال :
” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت ، وقال : من صمت نجا”
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : ثمرة القلب اللسان .
————————————————
” لأن لسان العاقل من وراء قلبه ” فإنه إذا أراد الكلام رجع إلى قلبه ثم تكلم أو أمسك .. و” لأن قلب الجاهل من وراء لسانه ” فإنه يتكلم بكل ما عرض له … ومن هنا تكون النصيحة أن الإنسان إذا جالس الجهال أنصت لهم وإذا جالس العلماء أنصت لهم أيضا وإنصات عن آخر فيه فرق كبير فإنصاته للجهال زيادة في الحلم وإنصاته للعلماء زيادة في العلم وهذه حكاية قريبة من المعنى تروى للعبرة فيها :
كان أعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت ، فقال له يوماً : لم لا تتكلم يا رجل ?
الأعرابي : أسمع لأعلم .. وأسكت فأسلم .. فاسمع مني هذه الحكاية العبرة : سئل عيسى بن مريم عليه السلام : أين يلزم الصمت ? فقال : عند من هو أعلم منكم ، وعند الجاهل إذا جالسكم .
يقول تعالى في الآية الثالثة والستين بعد المائتين بسم الله الرحمن الرحيم {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} صدق الله مولانا العظيم .

____________________________
قال بعض الشعراء :
تعاهد لسانـك إن الـلـسـان سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بـريد الـفـؤاد يدل الرجال على عقلـه
الكلام الكثير غير الممعن .. هدر للوقت في غير ما خلق الإنسان له من جد وسعي وإنتاج يهزل صاحبه إذا أكثر فأخطأ .. ويودي به للهلاك إذا تسرع ولم يزن ماسيقول وهذه رواية تروى عن أعرابي تكلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطال وأكثر في غير نفع ، فقال له صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : “كمْ دونَ لسانِك من حجابٍ ؟ ” فقال شفتايَ وأسناني , قال عليه السلام : “أفما كان لك في ذلك ما يردُّ كلامَك”. منها نتعلم أن تكلم المرء فليقل خيرا، وليعود لسانه جميل وممعن القول فإن التعبير الحسن عما يجول في النفس أدب عالٍ أدّب الله به عباده المؤمنين ونستدل بقوله تعالى في سورة الإسراء الآية الثالثة والخمسين : بسم الله الرحمن الرحيم {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} صدق الله العظيم .
______________________________
قرأت ما أسوقه دون تصرف في هذا المقام لما يحوي الكلام إفادة ” إن لصاحب الكلمة الطيبة مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند الله وعند الناس، فهو عند الله في جنات ونهر؛ لأنه لا يتكلم إلا بما يرضي رب البشر، وهو عند الناس كالنبراس يضيء لهم طريق حياتهم، فيأتون إليه، ويثقون فيه، ويستنصحونه، فيكون من عناصر الصلاح في المجتمع، وما ذلك إلا لكلماته الطيبة، وتعبيراته اللطيفة ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ” ويقول تعالى :
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].

__________________________________
من ينسى وصايا لقمان الحكيم لابنه .. ففي جزئية تختص بالكلام والصمت قال موصيا ابنه : يا بني إن غلبت على الكلام ، فلا تغلب على الصمت ، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول .. فإني ندمت على الكلام مراراً ولم أندم على الصمت مرة واحدة.
وقال إبراهيم بن المهدي بيتين في هذا المعنى فأحسن :
إن كان يعجبك السكوت فإنـه قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوتك مرة فلقد ندمت على الكلام مرارا
وقال بعض الشعراء :
أستر النفس ما استطعت بصمت، إن في الصمت راحة للصموت
واجعل الصمت إن عييت جوابـاً رب قول جوابه في السكـوت
إن السكوت سلامة ولربـمـا زرع الكلام عداوة وضرارا
حقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه ، ولا يرسله في غير حقه ، وأن ينطق بعلم ، وينصت بحلم ، ولا يعجل في الجواب ، ولا يهجم على الخطاب . وإن رأى أحداً هو أعلم منه ، نصت لاستماع الفائدة عنه ، وتحذر من الزلل والسقط ، وتحفظ من العيوب والغلط ، ولم يتكلم فيما لا يعلم ، ولم يناظر فيما لا يفهم ، فإنه ربما أخرجه ذلك إلى الانقطاع والاضطراب ، وكان فيه نقصه عند ذوي الألباب . وهناك من الحكايا مانستدل بها على سلامة الصموت الساكت وهلاك الراغي وكلمة “راغي” تعني اسم الفاعل من الفعل “رَغا” أي الشخص الذي يرغو بكلام كثير غير مفهوم أو يصرخ أو يشتكي .
_ يحكى عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال :
العباس : كان بكر بن عبد الله المزني يقل الكلام، فقيل له في ذلك، فقال
بكر : لساني سبعٌ ، إن تركته أكلني
لسان الفتى سبع عليه شذاتـه فإلا يزع من غربه فهو آكله
وما العيّ إلا منطق متبـرع سواء عليه حق أمر وباطله
_ كان يقال: الصمت صون اللسان وستر العِي ( العيب والزلل ) وفي ذلك أنشد أحمد بن يحيى يقول :
عجبت لإزراء العييّ بنـفـسـه وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنمـا صحيفة لبّ المرء أن يتكـلـمـا
وعند العرب معروف هذا المثل : عَيٌّ صامت خير من عَيٌّ ناطق .. ومن القصص العبرة أن ربيعة الرأي كان كثير الكلام .. فتكلم يوماً وأكثر وأكثر .. ثم قال لأعرابي عنده :
ربيعة : أتعرف ما العي ?
الأعرابي : نعم يا أخي أصلحك الله ، ما أنت فيه اليوم .
قال الهيثم بن الأسود النخعي:
من يستعن بالصمت يوماً فإنه يقال له لبُّ نـهـاه أصـيل
وإن لسان المرء ما لم تكن له حصاة ، على عوراته ، لدليل

ختاما الشذى في ورقة الكلام والصمت اليوم .. أن الله عز في علاه صف عباده بعدة صفات ، ذكر منها أنهم يكرمون أنفسهم فيبتعدون عن كل مجلس فيه لغو، فيقول سبحانه في سورة الفرقان الآية الثانية والسبعين : بسم الله الرحمن الرحيم ا{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} .
وفي سورة المؤمنون الآيات من 1 : 3 /
بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}
وفي سورة الأحزاب الآيات 70-71 /
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} صدق الله مولانا العظيم .