خالد خبريش
في زمن اختلطت فيه القيم، وتشوهت فيه المعايير، صارت بعض الحكايات التي تبدأ بالسخرية، تنتهي بحقيقة مريرة بمعنى الكلمة.
من تلك الحكايات، قصة رجل سحب أمواله من المصرف، بعد طول انتظار وازدحام وطوابير طويلة، ثم استقل حافلة في طريق العودة إلى بيته منهكاً. لم يكن يعلم أن لصاً كان يترصده داخل الحافلة وأمام أعيض بعض الركاب، سرق المال من جيبه دون أن يشعر.
وعندما طلب منه السائق الأجرة، تفاجأ الرجل بعدم وجود المال، فارتبك وخجل، واحمرّ وجهه من الحرج، فما كان من السائق إلا أن غضب منه.
المفارقة أن اللص نفسه، ادعى أنه متأثر بما رآه من خجل الرجل، وأظهر شهامته وكرمه وحلمه، فدفع الأجرة من المال الذي سرقه، قائلاً: “حساب الأستاذ عليّ”.! ابتسم الرجل وشكره بحرارة، وانطلقت عبارات المدح والثناء من الركاب وبعضهم كان شاهداً على السرقة، الجميع يمجّدون أخلاق “اللص النبيل”، ويدعون له بالخير وكثرة أمثاله!
قد تبدو القصة طريفة، لكن ما وراءها أكثر إيلاما من الضحك. إنها تُعبر عن حالة اجتماعية خطيرة، فعندما يلبس اللص عباءة النخوة، ينال الاحترام، وتضيع الحقيقة بين الكلمات المنمقة. لقد أصبحنا نعيش زمناً يُكرَّم فيه الفاسد، ويُهان فيه الشريف، وتُغفر فيه السرقة إذا غُلّفت بمشهد بطولي أو كلمة معسولة.
البُعد السياسي في القصة أكثر إيلاماً، فالمشهد المصغّر في الحافلة يرمز إلى المشهد الأكبر في الوطن. أولئك الذين يسرقون قوت الناس، ثرواتهم، أحلامهم، وحقوقهم، مايزالون يُقدَّمون للشعب على أنهم منقذون، وأصحاب أيادٍ بيضاء، ويُجمَّلون أمام الرأي العام، بل ويُصفّق لهم في المحافل، بينما المواطن البسيط يُهان ويُساء إليه لأنه لا يملك أجرة الحافلة التي ينهبها اللصوص أمام أعين بعض الركاب دونما أي فعل.
أما البُعد الاجتماعي، فهو في تطبيع بعض أفراد المجتمع مع الفساد، حين تصبح السرقة أمراً مقبولاً ما دامت مغلّفة بعبارات لائقة أو خدمة رمزية. وتُصبح الأخلاق مسألة شكل لا مضمون، والفساد سلوكاً منتشراً لا يُستنكر، بل هناك من يجد له المبررات، كما ويُقنَّن أحياناً.

أخلاقياً، نحن أمام انهيار في منظومة القيم. عندما يُكافَأ السارق، ويُهان الضحية، فإننا أمام انقلاب في معايير العدالة. وعندما يُمدح من خان الأمانة لأنه “ساعد” ضحيته، فإننا نهدم جوهر الأخلاق، ونزرع بذور العبث في نفوس الأجيال.
أما إنسانياً، فالمأساة مضاعفة. المواطن الذي سُرِق لا يجد سوى الخجل والصمت، بينما السارق يُقدَّم باعتباره رجلاً كريماً.
إن الكرامة الإنسانية تُدهس حين يُجبر الإنسان على شكر من ظلمه، وتُدفن إنسانيته حين لا يجد من يدافع عنه، أو حتى يعترف بظلمه.
واليوم، لم تعد الحافلة تتسع لحجم النهب والسرقة! لقد أصبحت مكتظة بالمنافقين، وتضيق أكثر فأكثر بالضحايا الذين لا يملكون حتى ثمن النزول منها. كلما زاد الصمت، اتسعت مساحة الفساد، وكلما طغى التهليل والتصفيق، ترسخت شرعية السارق، وتحوّل إلى قدوة!
المسألة لم تعد مجرّد قصة طريفة أو نكتة رمزية، بل أصبحت واقعاً يفرض علينا جميعاً أن نراجع أنفسنا. فمتى نعيد تعريف القيم؟ متى نفرّق بين “الشهامة الزائفة” و”الأخلاق الحقيقية”؟ متى نرفض المجاملات التي تزين صور الظالم، متى نعيد الاعتبار للحق والعدل؟ متى نفيق من غفلتنا ونعترف أن من يسرقنا لا يستحق شكرنا، بل محاسبتنا؟
نحن ما زلنا في الحافلة… لكن السؤال الملح، هل نترجل من الحافلة، أن نلقي القبض على اللصوص؟.