الدكتور . خالد خبريش
من قبعات الزئبق إلى خزائن الفساد – ضحايا أبرياء وجناة بلا ضمير
مباشرة إلى أروقة التاريخ، حيث حُفرت قصة صانعي القبعات الذين “جننهم” التسمم بالزئبق بلا رحمة، كانوا رجالاً بسطاء، يكدحون بأمانة ليل نهار، “أيامهم سوداء”، غير مدركين أن السم يتسلل إلى عظامهم، ويحولهم شيئاً فشيئاً إلى أشباح ترتعش، تهذي، ثم تنهار. كانت مأساةً حقيقيةً لضحايا لم يختاروا مصيرهم.
كانوا مع كل قبعة يصنوعها يخسرون كثيراً من خلاياهم، يكدحون ولا يعلمون مصيرهم المحتوم. “لمن أراد التفاصيل عليه بمراجعة قصة جنون صانعي القبعات”.
أما اليوم، تطل علينا مأساة أخرى برأسها النتن، هذه المرة من نوافذ المكاتب الفاخرة، أشخاص يمسكون بمفاتيح الخزائن العامة، لكنهم بدلاً من حراستها، يقضمونها قضماً، إنهم يشبهون أولئك الصانعين البؤساء في النتيجة، لكنهم يختلفون عنهم كل الاختلاف في النية والفعل والطبيعة، في العمل والكدح والعرق. فبينما كان الصانع يموت ليصنع قبعات، هؤلاء يقتلون الوطن ليصنعوا ثروات.

الزئبق القديم كان سماً خفياً، يقتل بصمت، أما سموم اليوم فهي علنية صارخة، تتجلى في صفقات مشبوهة، وعقود وهمية، وحسابات سرية، وافتقار المواطن، لا مشافي ولا مصارف ولا كرامة.
أعراض التسمم واحدة، واضحة، متطابقة، بالنسبة “لصناع الفساد” تتمثل في ارتعاش الأيدي عند كشف الحقائق، وتلعثم الألسنة عند سؤال المحاسبة، ثم ذلك الجنون العجيب الذي يجعل السارق يتوهم أنه المحق.
أما الصمت، فهو الزئبق الجديد، يتسلل إلى الضمائر، ويجعل من الجريمة عادة، ومن الفساد عُرفاً، فالمجتمعات تُنهب بصمتها عن جنون صناع الفساد.
لقد حلَّ العلم الحديث أزمة صانعي القبعات عندما حذرنا وفَهّمَنا خطر الزئبق. أما أزمة الفساد فتحتاج أكثر من مجرد فهم، إنها تحتاج إرادة وشجاعة وعلم أيضاً.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة الأكثر مرارة أن صانع القبعات كان يدفع ثمن جهله بخطورة الزئبق، بينما الفاسد؛ يدفع ثمن فساده الشعب كله.
الأول كان ضحية نظام جائر، والثاني هو نفسه النظام الجائر والجاهل. وهنا يكمن الفرق بين مأساة تستحق التعاطف، وجريمة تستحق الإدانة.