خالد خبريش
استوقفتني صباح اليوم عبارة تقول: وراء الأكمة ما وراءها، تبدو كمثل بسيط، لكنه – في حالتنا – يكشف عمق الكارثة. فـ(الأكمة) عندنا لم تعد مجرد تلة تخفي سراً، بل أصبحت رمزاً لطبقات متراكمة من التضليل، والاصطفاف، والمعلومات الزائفة التي تخنق الحقيقة وتمنعها من الوصول.
اليوم، لا نعاني من غياب أو قلة المعلومات الدقيقة فحسب، بل من تخمة في الأخبار المفبركة، وتحريف في الروايات، وتوظيف ممنهج للمنصات الرقمية في خدمة مصالح جهوية وقبلية وسياسية. لم نعد نستخدم منصات التواصل لنفهم الواقع، بل لنختبئ من الحقيقة خلف الرائج “الترند” المصنوع ربما خصيصاً لنا، وصور وجمل مقطوعة من السياق، و”فيديوهات” مفبركة، ومنشورات تغذي الغضب والانقسام.
في الواقع، ومنذ سنوات، وبينما يستعر الصراع في العلن على السلطة والثروات والمناصب، تدور معركة أكثر شراسة في الظل؛ معركة السيطرة على العقول باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي،
فهذه الشبكات لم تعد مساحة للتفاعل الحر كما تصورناها يوماً، بل تحولت إلى ساحات حرب خفية تديرها جيوش إلكترونية، بعضها مرتهن لأجندات داخلية، وبعضها الآخر عابر للحدود. جيوش تنشر الكراهية، وتؤسس للفرقة، وتُسكت الأصوات الحرة، وتمنح “الحق” لمن يدفع أكثر، أو يملك قوة مسلحة، أو يحتمي بقبيلة.
حتى أصبح المواطن ضحية مزدوجة؛ ضحية سلاح الإعلام المضلل، وضحية قناعته المسبقة. أنهم يحاولون دفعنا إلى تصديق ما يريحنا لا ما يقنعنا. لنشارك “معلومات معينة” فقط لأنها تؤكد روايتنا، أو تبرهن على صحة أفكارنا دون التأكد من مصداقيتها، إنهم يدفعون نحو أن نكذب الحقائق الدامغة لأنها تُربك اصطفافنا، وتتعارض مع قناعاتنا، فصرنا نمارس نوعاً من الجهل الطوعي، الذي – ربما – نعرف أنه تضليل، لكننا نفضله على وجع الحقيقة.
المعضلة ليست فقط في أدوات التضليل، بل في بيئة تتقبل هذا العبث، وتعيد إنتاجه. بيئة تقدس الراحة المعرفية، وتخشى السؤال، وتعادي التفكير النقدي.
في ليبيا اليوم ولمجرد طرح سؤال بسيط مثل: “من قال هذا؟” أو “هل تحققنا من المصدر؟” قد يجعلك موضع شك أو تخوين.
ومع ذلك، فإن الخروج من هذا النفق المظلم ممكن، لكنه يبدأ بقرار فردي شجاع؛ يتمثل في اعتلاء الأكمة، لا أن نقف أمامها منتظرين من يخبرنا ما خلفها. أن نواجه الحقيقة، لا أن نهرب منها، أن نسأل، ونتحقق، ونكشف، وربما نصمت حين يكون الصمت هو الموقف الأخلاقي الوحيد.
ما نحتاجه الآن هو التفكير النقدي، لا نقبل المعلومة لمجرد أنها توافق هوانا.
ثم التحقق من المصدر والسياق، قبل أن نضيف أصواتنا إلى الضجيج.
وربما أيضا بالصمت الواعي، حيث لا نساهم في التضليل، فبعض السكوت مقاومة.
ليبيا تحتاج إلى وعي جديد، إلى جيل لا يُقاد عبر العناوين العاجلة، ولا ينخدع ببريق الصور. جيل يرى الأكمة الرقمية كما هي: حاجزاً يجب تجاوزه، لا ساتراً نحتمي به.
فهل نملك الشجاعة لنرى ما وراء الأكمة؟