بالقاسم السحاتي
مربكة تلك اللحظات .. شاهدته من بعيد ممددًا، يحيط به الأطباء والممرضات .. بعضهم يجتمع حول رأسه ، وآخرون يهرعون حاملين أدوات طبية، يتحسسون يديه ، يفتحون عينيه المطبقتين .. ثم تهدأ الحركة قليلاً بجواره .. يتناجون وهم يرمقون من يلتف حول عنقه سماعة الطبيب، ذلك الذي رفع كمامة الأوكسجين عن فمه، وقام الآخرون بنزع الأسلاك من يديه وصدره ورجليه، ثم وضعوا فوق جسده ملاءة بيضاء .
إحدى الممرضات رفعت رأسه قليلًا، وأزاحت طرف الملاءة تحته، فارتسم وجهه بوضوح من خلالها… ثم تركوه ساكنًا ورحلوا.
اقتربتُ منه، وعيناي معلقتان بوجهه. تراءى لي أن الملاءة الملتصقة بفمه ترتفع وتنخفض ببطء، وأحيانًا تتوقف…
لحظة صمت طويلة تخللتها أصوات عربات الأدوية والطعام تجوب الممرات، وبعض القهقهات البعيدة تتقاطع مع أنات وصرخات مكتومة .
انهمرت دموعي دون سابق إنذار، ولم يفلح تجفيفها بظهر يدي.
سمعت صوت رجل خلفي يقول :
ـ لو سمحت.
كان يدفع سريرًا متحركًا، وساعده ثلاثة رجال آخرين في نقله بتأنٍ. جسده صار ثقيلاً جدًا …
تقوس ظهره أثناء رفعه، وتعثر في السرير المتحرك، ما جعله يتزحزح عن موضعه، فأسرع أحدهم ليثبّت العجلة بكعب حذائه.
لا أدري كم من الوقت مضى وأنا واقف بجوار سرير بات خاليًا، عاريًا من كل شيء، حتى من غطائه، وأصبح مجرد جلد أسود يشعرك بالبرد حد القشعريرة.
بجواره درج من الحديد لم تسلم زواياه من الصدأ، وتصدّع بابه حتى لم يعد يُغلق.
تربض فوقه قارورة ماء نصف ممتلئة، وبعض المناديل الورقية المكورة، وصورة لطفلة صغيرة مبتسمة.
كمن يتابع شريطًا سينمائيًا وداهمه النعاس واستيقظ في نهايته…
حدث انقطاع في تسلسل الأحداث.
حاولت ترتيبها من جديد في مخيلتي…
الغرفة تعج بالحركة… يدخلون، يخرجون، يرفعون يديه ويطلقونها، فتهوي مرتطمة بحافة السرير.
ينزعون عنه كمامة الأوكسجين، يتفرقون، الملاءة البيضاء تحت رأسه، شاهدته يتنفس، والملاءة تتحرك فوق فمه.
رفعوه، وضعوه على سرير الإسعاف… وهنا حدث خلل!
كيف سقط مشهد مغادرتهم به من ذاكرتي؟
ولا يمكنهم المرور دون أن يحاذوا جسدي…
شعرت ببرد يتسلل من قدمي، وكشاف شديد الإضاءة يقترب من وجهي…
كان جسدي عاريًا، لا تستره إلا قطعة خضراء رقيقة ليست من القماش.
فتاة سمراء كانت تتحسس فخذي، وتسكب سائلًا ذهبيًا وتجففه بقطنة، ثم تعاود السكب والتجفيف.
ومن بعيد سمعت صوتًا يسألني:
ـ ما اسمك؟
ابتسمت، وحاولت الإجابة، غير أن لساني أثقلني، فوجدت صعوبة في النطق…
اكتفيت بإغلاق عيني وشعرت بتحرري من جسدي، وغمرتني راحة لا حدود لها.
صوت السائل عن اسمي بدأ يضعف، يغرق، ويبتعد حتى تلاشى…
انفتحت أمامي مساحة أرض منبسطة، وسطها شجرة هرمة متهالكة، تحوم حولها الطيور.
وجدتني أتجه نحوها، إذ لا يوجد ما يُتجه إليه سواها.
ورغم قربها، فإن المسافة لم تنتهِ.
وفجأة… صوتٌ قريب جدًا، وأصابعي تتحسس يده، صافحني، وضغط على أصابعي بكفه رغم الضعف الذي يسكن جسده.
كان ممددًا لأيام دون حراك.
راقبت عينيه وشفتيه المتوثبتين للكلام، ثم قال بصوت واهن:
ـ عندما تبحث عني يومًا ولا تجدني، لا تبكِ… سأكون في مكان ما أراك، أرافقك، وأحدثك… دون أن تسمعني.
كلهم يقولون ذلك عندما ينوون الغياب دون رجعة.
أدركت أنني لن أراه بعد اليوم.
دفنت رأسي في صدره، وبكيت بحرقة.
بدت كلماته مألوفة…
ذات مساء، وكأنه في زمن آخر، وحياة أخرى…
إسفلت أسود تبتلعه السيارة التي تقلنا، تهرول بنا في زحام خانق.
كان الخوف يتملكني، فازدادت ملازمتي لذراع أبي.
لم أكن أعرف إلا أنه الوحيد القادر على منحي الأمان وسط وجوه غريبة، وأصوات مرعبة، وأبواق تتصاعد في كل اتجاه.
مررنا بشوارع تضيق وتتعرج، حتى ظهرت لنا بناية متهالكة، بباب حديدي عظيم، يتوسطه باب صغير.
نزل أبي، حقيبة صغيرة بيده، واليد الأخرى تمسك بمعصمي.
طرق الباب مرات حتى فتحه رجل مسن، وجهه مجعد، يرتدي جلبابًا أسود رُتق ببعض الخيطان البيضاء، رسمت عليه أشكالًا هندسية…
تحدث مع أبي، ثم أشار إلى مبنى جانبي بعيد قليلًا.
سار أبي بخطى واسعة، وأعجز عن مجاراته، فتعثرت…
دخلنا المكان، وكان يعمه سكون تخللته خطوات أبي وأصوات صافرات أجهزة بعيدة.
في الردهة، جلست امرأة سمراء بدينة خلف طاولة، لم تنتبه لدخولنا حتى قال أبي:
ـ السلام عليكم.
دفع لها ببعض الأوراق، وسألته:
ـ أين هو؟
أشار إلي، فانحنت قليلاً لتراني، وأنزلت نظارتها إلى أرنبة أنفها، فنظرت إليها من خلف أبي والتصقت به.
قال:
ـ هو يسمع، لكنه يعاني من صعوبة في النطق والفهم.
راودتني رغبة عارمة أن أرتمي في حضنه وأبكي…
أحسست أنني عبء ثقيل على كاهله.
جمعت المرأة أوراقها وقالت:
ـ هيا بنا إلى القسم.
خرجنا عبر ممر طويل إلى المبنى الكبير، حيث الممرات تعج بالصراخ والهمس.
توقفنا أمام غرفة، طرقت بابها وطلبت منا الانتظار.
أسند أبي ظهره إلى الجدار، وانحشرت أنا بجانبه…
تمنيت أن أغمض عيني وأفتحهما لأجدني في عالمي، حيث الجداول والنباتات الصغيرة التي كنت أسقيها، وأخفيها عن الجميع، فهي عالمي أنا وحدي.
وفي غمرة تلك الذكرى، جذبني أبي أمامه، ووضع وجهي بين كفيه، وقال بدمعة لم أرها من قبل:
ـ عندما تبحث عني يومًا ولا تجدني، لا تبكِ… سأكون في مكان ما أراك، أرافقك، وأحكي لك… دون حتى أن تسمعني.