(( قصة أمة ترفض أن تفهم ))
خالد خبريش
في أرض بعيدة ، تحيطها الجبال والغابات وتملؤها الحقول الخصبة ، عاش قوم يعتمدون على الزراعة مورداً لحياتهم .. خرج من بينهم أشخاص يدعون الحكمة أقنعوهم ببذور جديدة..
(ذهبولهم شيرتهم) ومن يومها، بدأوا يخرجون كل موسم إلى الأرض، يحرثونها بأدوات صدئة ، ويزرعونها ببذور شوك “الخشير” (1)
ورغم معرفتهم بحقيقتها، كانوا يحدقون في الأفق، بأمل لا يتزحزح ، ينتظرون أن تنبت بذور “الخشير” سنابل القمح !
كل عام يكررون ذات الطقوس ، يعلقون ذات الأحلام على فروع الشوك ، ثم في نهاية الموسم ، يصابون بنفس الخيبة .. لكن العجيب ، أنهم لم يتوقفوا يوماً ليسألوا أنفسهم :
_ هل ما نزرعه صالح؟
_ هل الأرض هي المشكلة ؟ أم نحن من يكرر الخطأ ذاته ويتبع نصيحة “من يدعون الحكمة” وننتظر نتائج مختلفة؟
لم يكن أحد منهم يريد أن يعترف بأن المشكلة تكمن فيهم ، في اختياراتهم ، في عقليتهم التي تخشى الخروج عن قول ونصيحة ورأي “كبارهم” ، الذين جعلوههم مقاومين لكل فكرة تدعو للتغيير المنطقي .
في أحد المواسم، خرج عليهم رجل يسمونه الحكيم ورئيس مجلسهم ، وقف في ساحة القرية وقال بصوت عالٍ :
” أيها الناس، المشكلة في التربة، إنها فاسدة، مريضة، يجب أن نغيرها ! “
صفق له بعض الناس، وهتفوا باسمه، وسرعان ما أرسلوا وفودهم إلى أصقاع الأرض، واشتروا تربة أجنبية باهظة، حملوها على الجمال والعربات ، وفرشوا بها حقولهم.
ثم – وكعادتهم – زرعوا فيها بذور “الخشير” ، وانتظروا، وانتظروا .. لكن ، لم ينبت القمح .
لم يتغير شيء ، المحصول كان شوكاً أكثر توحشاً.
ومع ذلك ، لم يجرؤ أحد على لوم الحكيم .. بل على العكس، حين مات ، بنوا له قبة فخمة يعلوها “سنسق”(2) ودفنوه فيها، وصاروا يزورون ضريحه كل موسم، يتمسحون بأعتابه، ويتمنون أن يورق الشوك ذهباً ببركته !.
ومرت سنوات عجاف “وأيامهم سوداء” دون تغيير، حتى خرج حكيم آخر، أكثر جرأة من سابقه .. قال لهم : ” يا قوم ، حلمت ببركة الحكيم ، وأبلغني أن التربة ليست المشكلة ، بل الماء !. أنروي بذورنا بالماء العادي ؟ هذا هراء .. علينا أن نرويها بعصير العنب ! “
صُدم بعض القوم في البداية ، لكن بعضهم صدّقوا ، وقادوا الجماعة في حملات، استوردوا خلالها ملايين الأطنان من عصير العنب ، وراحوا يروون به الحقول في طقوس احتفالية عجيبة .
_ قالوا : “ها قد وجدنا السر! “
_ وقال آخرون : ” إن الحكمة في الخروج عن المألوف !”
_ بعضهم حمل “جدياً أسود” وزار الضريح .
وانتظروا – كالعادة – بحماسٍ أكبر من كل مرة
ومع نهاية الموسم ، لم يحصدوا سوى شوك ” الخشير” ، فلا العصير ولا بركة الضريح ولا المرابط ولا السنسق نفعم .
أدرك البعض حينها أن هناك خللاً ، لكن الأصوات العقلانية ضاعت وسط التهليل لحكماء الأوهام ، والخوف من كسر التقاليد ، وقبة المرابط ، وقادة القطيع .
فقد كان أسهل عليهم أن يتهموا التربة بدلاً من مراجعة أنفسهم،
أسهل أن يبتدعوا طقوساً جديدة بدل الاعتراف بأن البذور نفسها فاسدة ، وأن العقول التي ترفض النقد والتفكير والتجريب والتغير ، هي السبب الحقيقي في استمرار هذا العبث.
لكن ، من كان يجرؤ أن يقول ذلك ؟ من كان مستعداً أن يُتهم بالجهل أو بالخيانة ، لأنه ببساطة سأل علانية :
_ لماذا نزرع الشوك وننتظر القمح ؟
وهكذا استمرت الحكاية ، جيلاً بعد جيل ، يزرعون ما لا يُثمر،
ينتظرون ما لا يأتي ، ويلعنون كل شئ ؛ إلا عقولهم .
ليست المشكلة في التربة، ولا في الماء، ولا في الفصول ..
المشكلة في عقلٍ يخاف التغيير، ووعيٍ لا يريد أن يرى، والسير مع توجه القطيع .
ما لم نقتلع البذور الفاسدة من الجذور، وما لم نجرؤ على كسر حلقة العادة ، سنظل نحصد الألم ، ثم نلوم التربة ، ونبني قباباً فوق ركام الجهلاء.
___________**
(1) الخشير نوع من الشوك ينمو مع محاصيل القمح والشعير ، وله أشواك حادة جدا ، يصعب التخلص منه سواءً من الأرض الزراعية ، أو من الأيادي .. ينمو في مختلف المناطق شبه الصحراوية والجبلية .
(2) “السنسق” كلمة عربية تستخدم في عدة معانٍ، لكن المعنى الأكثر شيوعًا هو “صغار الآس”. الآس هو نبات له رائحة زكية، وتستخدم هذه الكلمة أحياناً لوصف أشياء صغيرة أو مفيدة مثل هذه النبتة.