الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-06-30

10:50 مساءً

أهم اللأخبار

2025-06-30 10:50 مساءً

شبه لهم

سعاد الورفلي (2)

سعاد الورفلي

الوقت يتحكم في التفكير؛ حيث الظلام الدامس يختلط وفروعَ الأشجار المتشابكة، كان الجندي الوحيد الذي نجا من حادث الطائرة تهاوى في الفضاء تقلب تبعثرت أصابعه انكمشت عروقه تجمد دمه.. وأعضاؤه لم يشعر بها كعادته .. كل ما هو عليه أنه قطعة لحم تمتلك عينين فياضتين كريمتين ترقبان الفضاء لأول مرة؛ منذ طفولته كان يحب الفضاء الفسيح يحدِّث نفسه عمن يسكن هذا الفضاء ومن يمتلكه – دائما ما يحسد الطيور التي يراها بكل قوة تفرد أجنحتها العريضة في طريقة نادرة تكاد أن تقترب منك ثم سرعان ما تنكمش حتى تلامس السحاب .

ها هو ذا الجندي الوحيد الذي تناثر هو وتفكيره عبر هذا الأفق ليصبح طائرا بلا جناحين، تكور على أغصان شجرة كأنها أم رؤوم اجتمعت كل فروعها وأثدائها لتحضنه بدون أن تصيب جارحة ما في جسده البض، تنفس بهدوء بعد أن علم أنه كائن حي يعيش في عالم آخر.. قال: هل أنا حي؟ التفت ببطء لأن عنقه مهشمة بفعل ذبذبات الهواء القوية، وجد الأرض بعيدة، وأن الماء تحته كأنه كرة أرضية يتقاتل فيها البشر، لو انسلخ قليلا لوقع متلاشيا كورقة توت أخيرة بعدما تحطمت الطائرة وتفرق الجميع ذرات في هذا الكون الفسيح، غمرهم في أكبر مدفنة لا يفقه تاريخها سواه.. أين هم يا ترى؟ مازال يحدث نفسه كوليد في المهد يرى الخيالات والظلال محاولا مناغاتها، أين عزيز ومصطفى وعلي والكابتن سعيد؟ كنا نشرب القهوة ونحتفل بآخر يوم للتحليق في الفضاء، هل هذه خدعة؟ نظر ثانية إلى الأرض.. أصابته الدهشة! وهذه الشجرة أصلها راسخ في قعر البحر وفرعها في السماء.. يا إلهي أين أنا؟ يداه ممدودتان وعيناه مسيجتان بالضباب.. كل ما حوله فلسفة كونية غامضة كانت ساقه اليمنى بحذاء مطاطي لجندي لعب دورا كبيرا في القفز على الأشواك وساقه اليسرى بترت بفعل «رَدّة» قوية لجاذبية سلبت قطعة من جسده، لكنه لا يشعر بالألم، تحرك قليلا؛ كل ما يشعر به الآن هو الحيرة، تُرى أين أنا وما هذا وكيف حدث كل هذا؟ كلما أخذه النعاس سمع أصوات التلفاز عالية، والضحكات من حوله وأزيز الطائرات الذي يقطع سكون ذلك الكون. قارورة فتحت بقوة نادرة سمع صديقه حسام يقهقه: الآن حان اللهو، كانت لهجاتهم واضحة كأنهم في الدنيا يتنافسون على الشراب.. حسام دع هذه القطعة لي أرجوك أنت في كل مرة تأخذ قطعة جميلة؛ الحسناء ترمقه من الباب كانت تبكي بشدة تريد أن تعود، لقد اختلس الجنود منها الهاتف حينما أرادت أن تحدث به عشيقها الذي قتل في معركة ما.. ضحكوا جميعا ..علي قال هذه جاسوسة في يوم ما ستسقط بنا الطائرة بسببها، وكيف ستفعل وهي لا تملك شيئا سوى الدموع، لنتركها في الغابة ونمضي عنها ماذا نريد في إنقاذ فتاة ستجلب لنا المشاكل؛ الطائرة هوت من أعلى مكان القهقهات تحولت لأنين ثم تحولت لذبذبات تشبه محطات متقطعة ثم تحولت لمواء ثم تحولت لشيء ينزلق كماء يقع من على منحدر.. تلطخ وجهه بسائل حار.. فقد نفسه انفردت يداه ساقه بترت بهدوء قلبه مازال ينبض.. أمه قالت ليرعاك الله يا ولدي.. عد. وقع على شجرتها التقطته كمن يلتقط وليدا من بئر الدنيا، سمع طائر الهيثم والعنقاء تحلق حول الشجرة تكمش كعصفور امتلأ بالزغب.. يا لوقاحتي قال حينما شعر بأشياء تسري من تحته تحرك قليلا تبعثرت أشياؤه هوى من الشجرة وظل يتقلب في الفضاء: تذكر كل شيء في لحظة حاسمة.. لم يستطع الصراخ.. ولا طلب النجدة ولا التفكير.. صار قطعة من لحم تتقلب ككيس تنفخه الرياح.. تقلب فوق تحت يمين يسار؛ صوت الطيور تداعبه، مرّ من أمامه طائر أزعر كبير يشبه النعامة كل ما فيه متوقف الآن لا يتحرك شيء سوى عينيه، رأى الدنيا برمتها.. الصمت، الخذلان.. الوحدة.. الضياع.. شعر بالسكينة، تملكه شعور طفل يريد ثدي أمه انكمش كجنين في بطنها.. وقع على شاطئ النهر يوما كاملا بدون حراك.. فجأة أحرقته الشمس بعد أن أحدثت عليه الطيور. فتح عينيه.. تحركت الحدقتان.. بدأ جسده التعرف على المكان.. حرك سبابته ثم الوسطى ثم الإبهام.. أصبع قدمه اليمنى.. لا يشعر أن لديه يسرى.. أراد أن يجلس، جلس منكسا رأسه.. نسي أنه إنسان.. توغل في ماء النهر.. عام فيه.. وجد أعشابا وبلا تردد قضمها.. ابتلع الكثير من الماء.. باغته النعاس.. انطرح على شاطئه ونام.

في الضفة الأخرى كان قومه قد أقاموا عليه تأبينا يليق بلحظته… أحد الأطفال قال قد رأيت رجلا يشبه الذي في الصورة يمشي بساق واحدة بيده عكاز- أشار إلى صورته نهرته أمه.. ابتسم والده.. قال المسؤول: إيه حتى الأطفال يعشقونه ويرونه في المنام.

قالت امرأة يظهر نصف وجهها: حادث الطائرة مفتعل؟

قال الضابط: أين الكابتن؟

قالت المرأة: لقد تدحرج من الطائرة فارا تاركا جنوده.. لكنه احترق وتلاشى.

قال الضابط: عبد الله كان أصدقهم لقد ضحى بنفسه من أجلهم لكنهم استغنوا عنه عندما دفعوه خارج الطائرة ظانين أنها ستتوازن! قالت المرأة «إنه شجاع» يستحق الحياة! صوت المؤبن مازال يسرد قصيدة طويلة في حقه. والطفل خلفه إنه هناك.. لقد عاد الرجل الذي في الصورة.. التفت الجميع رأوه لأول مرة يقف كشيخ عجوز يريد أن يحدثهم وجهه ملطخ بآثار الشظايا.. ويداه ترتعشان.. تلعثم لسان الشاعر ذهل الجميع.. تحركت قوة عسكرية.. دفعوا الناس أرادوا أن يقبضوا عليه.. لكن طائرة رمت الشباك عليه؛ تلقفته.. وطارت.

صار قصة… قال والد الطفل: كأنه شبه لهم.. قال الطفل: هذا البطل عبدالله.. مازال حيا لم يمت يشبه قصص الأفلام التي أتفرج عليها. رمقه أبوه باستغراب.. نظرت أمه في عيني زوجها.. اقتربت منه.. قالت: نعم صحيح هو ما يزال كذلك.. إنهم يطاردونه. لم يفعل شيئا أراد أن ينقذ طاقم الطائرة.

استغرب الزوج من حديثها سألها من أنتِ؟ قالت نفسها المرأة التي كانت على متن الطائرة، تخلصوا منها في الغابة بفكرة عبدالله قبل أن يفترسوها، وقد مكر بهم لمعرفته مسبقا بمكرهم. شعرت في الوقت نفسه أنه يبث في روعها رسالة. أراد زوجها أن يفتك بها.. لكنه دعاها للصمت والنسيان! الطفل وحده بكل تحفز استوعب العمل، دخل غرفته فتح التلفاز أكمل ما تبقى من فيلم.

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة