” قصص درمشاكي إنموذجا “
داود سلمان الشويلي
عند دراسة النص السردي ، كأن يكون رواية، أو قصة قصيرة، أو قصيرة جدا، من الأمور المهمة دراسة التمهيد “البداية” الذي يبدأ به النص السردي ، وهو يتقدم كل الجمل، والمقاطع، الخاصة بالنص، إنه بداية الحبكة القصصية التي تكون عنصرا مهما فيها : البداية ، العقدة ، النهاية .
ونجد التمهيد /البداية في بعض النصوص السردية ، يعاد بصيغة أخرى مرة ثانية في نهاية النص نفسه ، إذ انه يرتبط بالجملة الأخيرة منه ، ويصبح كالنص الشعري المدور، والمقفل ، على نفسه ، أي ان النص يصبح مقفلا على نفسه، وهذا يتطلب نوعا من الابداع المتمكن في القص.
أمامنا على طاولة التشريح، والفحص، والدراسة، نصوص قصصية من النوع القصير جدا للقاص الليبي حسين بن قرين درمشاكي سنقوم بتشريحها، وفحصها، لندرس فيها التمهيد.

_مجال التشريح ، والفحص، والدراسة:
ان المجال الذي ستتحرك فيه هذه السطور هي ستة نصوص قصصية اختيرت بعشوائية الباحث، والدارس، والتي تكون فيها الجملة الأولى ترتبط بالجملة الأخيرة للنص، وهذه النصوص هي:
– نص “غبار”.
– نص “انكسار سجدة”.
– نص ” صرخة غبار”.
– نص ” ابتلاع”.
– نص “وجه أخير”.
– نص “الشجرة الواهية”.
(( النصوص ))
1 – ((غبار:
ظل وحيدا، يلفه صمت المساء وعبق الذكريات. على حافة الرصيف المهجور، تناثرت أحلامه كأوراق الخريف، تائهة بين همسات الريح وصدى السنين. في كفه الراجفة، بقايا خبز يابس. في عينيه حكايا وطن سلب وروح تكسرت. أغمض جفنيه المتعبتين. استيقظ طيف الأمس، يداعبه أمل خافت بلقاء لن يأتي. حين انبثق الفجر، كان الكهل قد غادر، تاركا خلفه وشوشة أمنيات لم تكتمل، وصمتا أبلغ من كل الكلام.)).
2 – ((انكسار سجدة:
تكورت. كتلة ألم ترتجف في شغاف روحها. لم تكن سجدة طاعة، بل سجدة انكسار. جسد يرتدي زرقة ليل حالك، ووشاحًا بلون شفق باهت، انطوى على كيان صغير، يرتشف حزنًا مكنونًا في كل خيط من قماش. يداها، اللتان رفعتا يومًا دعاء بخشوع، غرقتا في خصلات رأس تفوح بعبق طفولة راحلة.
هنا، على بقعة باهتة من الزمان والمكان، ذابت الأمومة في بوتقة الفقد. كل نبض في قلبها كان صدى لصرخة مكتومة، وكل دمعة انحدرت بصمت كانت نهرًا من اليأس. كانت تحتضن فراغًا، لكنه فراغ محشو بضحكات طفل ملأ الدار، وخطوات صغيرة دبت في أرجائه، وأحلام وردية نسجتها لأيام قادمة.
ما عادت تبحث عن مواساة؛ فالمواساة نفسها غادرت مع الجزء الأغلى. كانت تتوق لملاذ، لكهف يواريها عن قسوة نور شمس تذكرها بغياب ضوئها. في تلك السجدة، خرست الكلمات، وبقيت لغة الجسد البليغة وحدها تئن من ثقل الفراق. سجدة كلما تعمقت، زادتها غرقًا في يم الأحزان، لكنها خبأت في أعماقها بذرة أمل خفية: أن هذا الانكسار بداية لتماسك جديد، وأن الألم سيهذب الروح، وإن طال أمد السجدة.)).
3 – ((صرخة غبار:
تسللت الأرواح من شقوق الزمن، غبارا متكثفا يحمل وجوها تمزقت من أعماق اليأس. لم تكن صرخاتهم مجرد أنين، بل كانت تجليات مجسدة لكل ما هو فان، لكل ما تلاشى. وجه يتشبث بآخر خيط من نور، وآخر يتجمد في رعب أبدي، وثالث يتلوى في صمت رهيب. كانت العيون فوهات تبلع الفضاء، والأفواه كهوفا يتردد صداها في العدم.
خلف هذا الرقص الشاحب للوجوه المعذبة، انتصب شبح المدينة العتيقة، برج ساعتها يصيح في الأفق، شاهدا أبكم على مسرحية الخلاص المحتضر. كانت ظلال بشرية تتهادى بين الأشباح، لا ترى، لا تسمع، غارقة في غفلة الوجود اليومي، بينما الجدران تئن، والهواء يرتجف من صدى صرخات لم يدركها أحد.
انها ليست مجرد صور، بل هي بصمات من الألم، معلقة بين السماء والأرض، تروي حكايات مدفونة عن أرواح أبت الفناء، فظلت تصرخ، غبارا متجسدا، في أروقة الذاكرة المنسية.)).
4 – ((ابتلاع:
في ظلامٍ موغلٍ، عثر آسر على مرآةٍ، ليست زجاجًا بل صدى أرواح. جمع قطعها بشغفٍ جنونيٍّ، فابيضّ شعره وشاخت ملامحه. لم يرَ وجهه، بل أشباحًا تنهش روحه. اكتملت المرآة، انشقت فجأةً، كفوهة جحيم. لم يرَ انعكاسه، بل فراغًا أسود يبتلعه. صرخ صرخةً، تلاشى، وقبيل الفناء، لمح عينيه فارغتين، ميتتين، في قاع العدم. المرآة لم تعكس الأرواح قط، بل التهمتها؛ وكلما جمع قطعةً، أضاف جزءًا من ذاته.)).
5 – ((وجه أخير:
في عتمة زنزانة الوهم، أدرك أن الجدران ليست إلا سرابًا رسمته مخيلته المنهكة. انتظار “الحساب” كان سجنه الحقيقي. كل فجر همس بأمل كاذب. كل مساء أطال أغلال الغبن. لاحت بشارة “القصاص” المنتظر. سمع بكاء خطوات قادمة. انتفض قلبه. لكن الزائر لم يكن ملاك عدل. كان وجهه هو نفسه، بصقيع لم يره قط. حمل مرآة مكسورة تعكس زنزانة أبدية.)).
6 – ((الشجرة الواهية:
في قفر العدم حيث يلفظ الصدى أنفاسه الأخيرة، قامت شجرة واهية. لم تكن أغصانها شرايين حقيقية، بل وشمًا من لمعان الوهم ورقة السراب. ألقت بظل مُحير، كخارطة لضياع أبدي للأبصار التائهة. همس العابرون، أرواح نخرها التيه، عن أحجية كونية في جذورها، زاعمين أن فك طلاسمها يفضي إلى المطلق المنشود.
توالت الأقدام نحوها، كل روح تتخبط في لجج شغف أعمى، كفراشة سُحرت بلهيب الوهم. بعضهم ارتد بعينين شاخصتين، خاويتين من آخر رمق للأمل، يهمسون عن خواء مطلق: لا شيء سوى انعكاس باهت لظمأ أزلي لا يُروى. وآخرون، ابتلعتهم دوامة البحث اللانهائية، فذابوا في السكون الذي لم يكن إلا أنين وجود لم يولد قط.
وفي مغيب المسعى، لم يبق سوى زفير الريح، يتلو تراتيل الرثاء بين أغصان السراب المتلاشية. كانت تروي للتراب العقيم حكايا الباحثين عن كنه الوجود في أحلامهم وتلاشى في رحاب اللاشيء. وظلت الشجرة، فخ الوهم اللامع، تضيء دروب الضياع لآخرين يتبعون أثرها، في رحلة بحث لا تنتهي، عن حقيقة لا تُدرك إلا باستسلام الروح لسرابها.)).

_التشريح، والفحص، والدراسة:
– النص الأول:
((ظل وحيدا، يلفه صمت المساء وعبق الذكريات. على حافة الرصيف المهجور، تناثرت أحلامه كأوراق الخريف، تائهة بين همسات الريح وصدى السنين))
((حين انبثق الفجر، كان الكهل قد غادر، تاركا خلفه وشوشة أمنيات لم تكتمل، وصمتا أبلغ من كل الكلام.)).
في هذا النص نجد انه قد بدأ، ومهد للقص بجملة تذكر الوحدة، والذكريات، والرصيف المهجور، وأحلامه، وهي تذكر بكهولة شخصية النص، ووحدته. وفي نهاية النص يستذكر الأجواء النفسية كلها من الكهولة، والأمنيات/الأحلام، والصمت.
– النص الثاني:
((تكورت. كتلة ألم ترتجف في شغاف روحها. لم تكن سجدة طاعة، بل سجدة انكسار.))
((أن هذا الانكسار بداية لتماسك جديد، وأن الألم سيهذب الروح، وإن طال أمد السجدة.)).
في مقدمة هذا النص نعرف ان شخصية النص لم تسجد سجدة طاعة، وانما سجدة انكسار، وهو كتلة من الألم، وفي نهاية النص يستذكر الانكسار، وسجدته، والألم.
– النص الثالث:
((تسللت الأرواح من شقوق الزمن، غبارا متكثفا يحمل وجوها تمزقت من أعماق اليأس.)).
((تروي حكايات مدفونة عن أرواح أبت الفناء، فظلت تصرخ، غبارا متجسدا، في أروقة الذاكرة المنسية.)).
في المقدمة يذكر النص الأرواح، والغبار، وما حدث لهما، وفي النهاية يستذكرهما سوية.
– النص الرابع:
((في ظلامٍ موغلٍ، عثر آسر على مرآةٍ، ليست زجاجًا بل صدى أرواح.)).
((المرآة لم تعكس الأرواح قط، بل التهمتها؛ وكلما جمع قطعةً، أضاف جزءًا من ذاته.)).
في نقدمة النص يذكر القاص المرآة، والأرواح، وفي نهاية النص يعود مرة أخرى يذكرهما.
– النص الخامس:
((في عتمة زنزانة الوهم)).
((حمل مرآة مكسورة تعكس زنزانة أبدية.)).
في مقدمة هذا النص يذكر القاص زنزانة الوهم، وفي نهايتها يذكر الزنزانة نفسها مع تغير في الاسم من الوهم الى الأبدية، وهو تغير يفرضه النص.
– النص السادس:
((في قفر العدم حيث يلفظ الصدى أنفاسه الأخيرة، قامت شجرة واهية.)).
((وظلت الشجرة، فخ الوهم اللامع.)).
في مقدمة هذا النص يذكر القاص شجرة واهية في قفر العدم، وفي نهاية النص يذكرها كفخ لامع من العدم.
هكذا تكون المقدمة أو التمهيد قد أعيدت مرة أخرى للنص في نهايته ، وهذا الاجراء هو بحد ذاته إبداع قصصي يؤكد على أن القصة قد مسكت بتلابيب حبكتها، ولم تتركها كما في بعض النصوص القصصية للقاص أو لغيره .
