في عالم تتشابك فيه الذاكرة مع السياسة والمنفى، يطلّ اسم هشام مطر بوصفه أحد أكثر الأصوات الأدبية رهافةً وصدقًا. كاتبٌ ليبي اختبر الفقد والمنفى مبكرًا، فصارت كتاباته جسرًا هشًّا بين وطنٍ لم يره كما ينبغي، وبين ذاكرةٍ لا تكفّ عن استدعاء الغائبين.
وُلد هشام مطر في نيويورك عام 1970، من والدين ليبيين أرغمتهم معارضتهم لنظام القذافي على العيش في الترحال القسري. عاد مع أسرته إلى طرابلس في طفولته، وهناك عاش سنوات قليلة قبل أن تدفعهم ضغوط الملاحقات الأمنية إلى القاهرة، التي ستصبح محطة طويلة ومؤثرة في ذاكرته. في تلك المدينة، كبر الفتى الليبي محاطًا بشبح أبيه جابر مطر، المعارض الصلب، الذي سيختفي لاحقًا في غياهب السجون الليبية.
بعيدًا عن بلاده، وجد هشام نفسه شابًا في بريطانيا. لم يكن قد تجاوز السادسة عشرة حين أُرسل إلى لندن للدراسة تحت اسم مستعار، خوفًا من أن يلاحقه نظام بلاده في منفاه البعيد. درس الهندسة المعمارية، وامتهنها لبعض الوقت، لكنه ظلّ مطاردًا بحنين غامض إلى الكتابة. بدا له أن المباني، مهما بلغت دقّتها، لا تكفي لاحتواء شروخ روحه.


في عام 2006، فاجأ هشام مطر العالم بروايته الأولى In the Country of Men (في بلاد الرجال)، التي دخلت فورًا قائمة المان بوكر وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة. في هذا العمل، يستعيد مطر ليبيا السبعينيات بعيون طفل، يشهد التحوّلات السياسية في حارةٍ مكتظةٍ بالأسرار والخوف. يروي هشام طفولة ظلّت معلّقةً بين وطنٍ يشبه الحلم وسلطةٍ حوّلت الأحباء إلى أعداء. في خلفية كل صفحة، يلوح سؤال الفقد الأبوي الذي سيلازمه في كل كتبه.
لكن كتابه الأشد خصوصية كان مزيجًا بين السيرة الذاتية والبحث المحموم عن العدالة: The Return (العودة) الصادر عام 2016. بعد سقوط القذافي، عاد هشام مطر إلى طرابلس باحثًا عن أثر أبيه الذي اختفى في السجون الليبية قبل عقدين. تجول بين المدن والمعتقلات والوجوه، مستحضرًا مشاهد الطفولة وخيالات الأب الأسير. نال هذا الكتاب جائزة بوليتزر المرموقة للسيرة الذاتية، ليصير شهادة على ما تفعله الأنظمة القمعية بذاكرة الفرد وأسئلته التي لا تموت.

يكتب هشام مطر بالإنجليزية، لكنه يكتب روحًا عربية غارقة في حنينها. أسلوبه رقيق، شبه شعري، يراوغ الغضب المباشر ليزرع في قارئه قلقًا أعمق: كيف ينجو الإنسان من ظلال الماضي؟ كيف يبني لنفسه وطنًا بديلًا حين يكون الوطن بعيدًا أو مفقودًا؟
بين رواية Anatomy of a Disappearance (تشريح اختفاء) وكتاب A Month in Siena (شهر في سيينا) وأحدث أعماله My Friends (أصدقائي) الذي صدر في 2024، ظلّ مطر ينقّب في التمزقات ذاتها: الأب، المنفى، الخسارات. في أصدقائي، يعود إلى لندن الثمانينيات ليروي قصة ثلاثة شبان ليبيين يعيشون أثر حادثة إطلاق النار الشهيرة على السفارة الليبية في لندن عام 1984. مرة أخرى، يستعيد هشام التاريخ ليكتب عن أناس ظلوا معلّقين بين موت مؤجل وحياة ناقصة.


لم يمنعه صمته النبيل من أن يحقّق حضورًا أدبيًا رفيعًا؛ فإلى جانب بوليتزر، حاز على جائزة أورويل للرواية السياسية، وجائزة ناقدي الكتب الوطنية الأمريكية. يدرّس اليوم الكتابة الأدبية في جامعة بارنارد بنيويورك، لكنه ما زال يعود بروحه إلى طرابلس والقاهرة، ويكتب عن البيوت التي تركها خلفه.

وربما تكمن جاذبية هشام مطر العميقة في كونه لم يكتب عن نفسه وحده، بل صار صوته امتدادًا لآلاف الليبيين والعرب الذين وجدوا في الغربة سجنًا طويلًا من الأسئلة. صار كتابه العودة بمثابة سفرٍ للبحث عن العدالة، لا لمطر وحده، بل لكل من فقد أبًا أو أخًا أو صديقًا في دهاليز الاستبداد. وبين جيل الشباب الليبي، خاصة أولئك الذين وُلدوا خارج وطنهم أو كبروا بعيدًا عنه، أصبح هشام مطر رمزًا لمصالحةٍ صعبة بين الذاكرة والمنفى، بين المرارة والإصرار على تذكّر من اختفوا كي لا يُمحَوا مرتين.
هشام مطر ليس كاتبًا يُقرأ فقط، بل يُصغى إليه. نصوصه تهمس للقارئ أن المنفى ليس مجرد مكان، بل حالة وجودية معلّقة بين تذكّرٍ مؤلمٍ ونسيانٍ مستحيل. وفي زمنٍ صار فيه فقد الأوطان مشهدًا متكررًا، يصبح صوته تذكيرًا بإنسانيتنا الهشّة، وحاجتنا لأن نحكي حكايات الغياب قبل أن تبتلعنا الظلمة.