وُلد إبراهيم الكوني عام 1948 في مدينة غدامس، تلك الواحة العريقة التي انبثق منها نحو العالم كاتبًا طارقيًا حمل هموم الصحراء وحِكمتها إلى القارئ الإنساني في كل مكان. ينحدر الكوني من قبائل الطوارق، ويكتب من عمق ثقافتهم الأسطورية، جامعًا بين لغته الأم تماهق الطارقية، واللغة العربية التي نسج بها ملحمته الكبرى، إلى جانب إتقانه لثماني لغات حيّة بينها الروسية والبولندية والألمانية.
لم يتعلّم الكوني القراءة والكتابة إلا في سن الثانية عشرة، قبل أن يشقّ طريقه إلى معهد غوركي في موسكو لدراسة الأدب المقارن، ويبدأ مسيرته الصحفية في روسيا وبولندا.

تخرّج الكوني في معهد مكسيم غوركي الأدبي بموسكو سنة 1977، حاصلاً على الليسانس والماجستير في العلوم الأدبية والنقدية، لينطلق بعدها في مسيرة إبداعية وصحفية ودبلوماسية غنية. عمل في عدة سفارات ليبية في روسيا وبولندا وسويسرا، وكان مراسلاً ومحررًا، قبل أن يتفرّغ لتأسيس مشروعه الأدبي الذي قلب فيه نظريات الرواية الكلاسيكية.
كان الكوني في بداياته الأدبية يواجه نظرية شائعة مفادها أن “الرواية عمل مديني” وفقًا لجورج لوكاتش، لكنه نقض هذه النظرية عمليًا؛ إذ حوّل الصحراء نفسها إلى مدينة أسطورية مفتوحة على الوجود. تدور أعماله حول العلاقة الجوهرية التي تربط الإنسان بالطبيعة الصحراوية، وحيواناتها، وأرواحها، حيث تتحوّل الحيوانات والأمكنة في رواياته إلى رموز كونية حية. يرى الكوني في الصحراء المعنى الأكبر للفقد والحرية والقدر الحتمي الذي لا يرد.

ألّف الكوني أكثر من 80 كتابًا بين روايات ومتون فلسفية ونصوص شعرية وأسطورية، تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة عالمية، وتدرَّس في كبرى الجامعات مثل السوربون وطوكيو وجورجتاون، واعتمدت مراجع بحثية لطلاب الدراسات العليا.
رشّح الكوني لجائزة مان بوكر الدولية عام 2015، وهي جائزة كانت تُمنح كل عامين لكاتب عالمي عن مجمل إنجازه الأدبي، لتؤكد مكانته كصوتٍ كوني حمل روح الصحراء إلى مسرح الأدب العالمي.
نال إبراهيم الكوني ما يزيد على 15 جائزة عربية وعالمية، منها:
جائزة الشيخ زايد للكتاب (فرع الآداب).
وسام الفروسية الفرنسي للفنون والآداب.
جائزة مان بوكر الدولية (القائمة القصيرة) عن رواية ناقة الله.
جائزة الدولة السويسرية على روايتي نزيف الحجر والمجوس.


وتُعد رواية نزيف الحجر (1990) واحدة من أشهر روايات الكوني وأقربها إلى قلب القارئ الغربي والعربي على حدّ سواء. في هذه الرواية يصوّر الكوني حكاية صيادٍ صحراوي يُدعى “عُكّاز” يتعايش مع قسوة الطبيعة وسط سلسلة جبال “تِيبِستي” الليبية، حيث تصبح الجبال والصخور كائنات حيّة تنزف بالحكمة والعزلة.
تدور الرواية حول ثنائية الصياد والفريسة، الإنسان والقدر، وتستحضر الفلسفة الطوارقية في نظرتها للوجود، وتُبرز قدرة الكوني الفريدة على تحويل الصحراء إلى أسطورة ناطقة. وقد حازت الرواية جائزة الدولة السويسرية عام 1995، لما فيها من عمق إنساني وجمال لغوي جعلها مرجعًا في الأدب الصحراوي المعاصر.

أما رواية المجوس، فهي رواية ملحمية متعددة الأجزاء، صدرت أولى أجزائها عام 1990، وتُعد من أعظم أعمال الكوني من حيث البنية الرمزية والفكرية. تغوص المجوس في عالم الصحراء كمسرح روحي، وتناقش صراع الإنسان مع الغيب، والحتمية، والحب المفقود، وأحلام الانعتاق من القيود.
يستخدم الكوني في هذه الرواية تقنيات السرد الأسطوري، ويعيد إحياء حكايات قديمة من الإرث الطارقي، ممزوجة بفلسفة صوفية عميقة. وقد نالت المجوس جائزة الدولة السويسرية الثانية عام 2001 تقديرًا لفرادتها في فتح أفق جديد للأدب العربي لدى القارئ الأوروبي، ولما قدّمته من رؤية كونية للصحراء بوصفها معادلًا رمزيًا للوجود الإنساني.
كما وضع السويسريون اسمه في كتاب يخلّد أبرز الشخصيات التي أقامت في بلادهم، ليكون الكاتب الوحيد من العالم الثالث الذي يحظى بهذا التكريم.
لم يكتفِ الكوني بالرواية، بل خاض غمار دراسة اللغات والفلسفات القديمة، فتعمّق في تاريخ الأديان والكتابات البدئية، وأنتج سلسلته الفريدة بيان في لغة اللاهوت التي يرى أنها تكشف أصول اللغة والحضارة الأولى، وهو مشروع فكري لم يترجم بعد بشكل كافٍ إلى لغات العالم.

وصفه المترجم الألماني هارتموت فندريش بقوله:
“الكوني ظاهرة استثنائية في الإبداع العربي؛ يكتب عن الصحراء كرمز للوجود الإنساني ويفتح الأبواب للكنز الأسطوري لعالم المتوسط.”
أما المستعربة الأمريكية مارسيا كوالي، فتقول:
“المشاهد الطبيعية والحيوانات في أدب الكوني ليست إكسسوارات سردية، بل كائنات حيّة حاملة للمعنى، تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون.”
وكتبت فاطمة المحسن الناقدة والأكاديمية العراقية
كتبت دراسات نقدية عنه ضمن مقالات عن “أدب الصحراء” وأكدت تفرّده في ردم الهوّة بين الرواية والميثولوجيا الصحراوية.
صبري حافظ ناقد أدبي مصري مقيم في لندن – جامعة لندن
كتب مقالات متفرقة أشاد فيها بتفرّد الكوني في تقديم “ميتافيزيقا الصحراء” وقال إنه “استطاع خلق كونية جديدة للنص العربي.”
من أبرز مؤلفاته: المجوس، نزيف الحجر، التبر، رباعية الخسوف، واو الصغرى، نداء ما كان بعيدًا، وصولًا إلى موسوعة بيان في لغة اللاهوت.

يُلقَّب إبراهيم الكوني بـ “صوت الصحراء” وذكر في الصحافة الأوروبية بالفرنسية (La Voix du Désert) لأنه لم يكتفِ بأن يكون راوٍ لرمال الطوارق، بل صار مرآةً لفلسفة الصحراء في جوهرها الروحي والميتافيزيقي. نشأ الكوني في عمق التقاليد الشفوية والملاحم الطارقية التي نسجت وعيه الأول، قبل أن ينتقل من كثبان ليبيا إلى معهد مكسيم غوركي في موسكو لدراسة الأدب المقارن، ومنها إلى صحافة المنفى بين موسكو ووارسو، ثم سويسرا منذ 1993.
في أدبه، لا تظهر الصحراء مجرد ديكور بل كائن حي يتنفس أساطيره: الذهب لعنةٌ يفرضها مع العالم الآخر، وبناء البيوت سقوطٌ من حرية الترحال إلى عبودية الأرض، فيما الصمت هو الوحي الأسمى الذي يتيح للإنسان أن يفهم أسرار الكينونة. الصحراء في نصوصه هي كذلك جسرٌ بين الفردوس المفقود والمنفى الأزلي، بين أساطير تانيت والقمر والواحات المخفية مثل “واو” التي غادرها الطوارق مطرودين.
يُحافظ الكوني على ذاكرة أهل الصحراء الليبية ويعيد تقديمها للعالم كمرآةٍ كونية لقضايا الإنسان الكبرى: الحرية، القدر، الغيب، التصالح مع الطبيعة، وثنائية السكون والصوت. لهذا صار الكوني جسراً فريدًا بين الأدب الشفهي والأسطورة والنص الفلسفي الحديث، صوتًا منفردًا في أدب الصحراء المعاصر. لقد صار إبراهيم الكوني علامة فارقة في أدب الصحراء من ليبيا إلى العالمية، ليصبح جسرًا بين التراث الطارقي وأسئلة الوجود الكبرى، مقدّمًا للقارئ نصوصًا يتداخل فيها الأسطوري بالفلسفي، ليؤكد أن الصحراء ليست فراغًا، بل فضاءٌ يتّسع لكل الحكايات.