الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-09-09

5:44 مساءً

أهم اللأخبار

2025-09-09 5:44 مساءً

قوارب الموت . تطوان 1999م

web

ناصر الدعيسي

الحياة بطولة لكن دون ضجة .. بطولة صغيرة يمارسها الإنسان يوميا من أجل أن يظل صادقا وشريفا .

منذ عشرين عاما في صحراء الكفرة وعلى تلك الرمال التي كنا نتسامر فوقها كل ليلة حينما ينزع الليل تلك النار الملتهبة بصقيع صحرائه كان صديقي تاج يحدثني عن رحلة الموت لأسرة تشادية قادمة لحدودنا هربا من الجوع والفقر المدقع .. كانت تلك إحدى رحلات قوافل الموت عبر الصحراء ( الهاشمي ) بائع الجيلاتي على رمال تطوان يحدثني عن قوارب الموت عبر البحر هربا نحو الشمال .. حكايتان واحدة من الجنوب والأخرى من الشمال وهي سنوات طويلة رغم اختلاف التاريخ والدغرافيا .. الموقع والحدث .. لكن حياة الفقراء واحدة لا تتغير الفقر يظل دائما بوابة المنفى والرزق طير شارد يحط مرة ويهرب مرة أخرى والباحث عن الرزق صياد أعمى يطارد الريح وغربة الأيام ..

لقد كذب ( فوكوياما ) حينما قال انتهى التاريخ فكيف ينتهي التاريخ والقتال مستمر للفوز بالأرض والمادة ؟ كيف ينتهي التاريخ وهذه الحياة يهددها اليوم الطوفان الجديد العولمة ؟ التي بدأت تستبيح كل شيء وتخيفنا بالأدبيات الجنائزية .. ناية الأيدلوجيا نهاية التاريخ والتقنيات المطلقة .. وتلاشي مفهوم السيادة ؟ لغة الحداد التي بدأت تعلن بأن كل شيء أصبح بين أيدي النوفيكلاتور ( الطبقة المرموقة ) وأن الفقراء لهم الله فقط بعد أن تدمرت الحواجز والحدود .. بعد أن شيعت الدولة الأمة إلى مثواها الأخير ..

سبتة المدينة العربية الصغيرة على مرمى العين من رمال تطوان .. هكذا تبدو من بعيد والهاشمي يدندن على صندوقه الخشب أغنيته البربرية :

ويد دوجو باس إلسن

بف ودك دوجو ييس

وهي عربيا تقول من ترك له والده لسان .. خير من الذي ترك له فرس .. كان حلم الهاشمي الهرب للضفة الأخرى من خلال صندوق الجيلاتي .. تلك الجيلاتي التي يبيعها على الشاطئ .. سحابة حزن عميقة ظهرت على وجهه البرونزي ووسط رائحة التبغ الإسباني النافذ الرائحة .. والذي يتحصل عليه من السيارات التي تهرب كل شيء على الحدود .. قال لقد حاولت أن أجرب هذه المغامرة والتي نسمعها كل يوم في مقاهي تطوان هناك من يعبرون البحر في جنح الظلام .. إلى الضفة الأخرى .. لكن المشكلة أن هذا الأمر حتى يتحقق .. يريد المال الكثير .

حرمت نفسي من كل شيء حتى تحصلت على مال المغامرة .. توصلت للرجال الذين يقودون مراكب الموت .. أنفقت معهم كالآخرين .. رمانا المقاول في شاحنة كالبهائم ثم نزلنا حينما بدأ الليل يسدل ذيوله .. وأبحرنا في جنح الظلام بعد أن أحرقنا كل المستندات والأوراق والهويات التي كانت بحوزتنا .. هذه قاعدة ثابتة لكل من يركب قوارب الموت ويتم إبلاغ الركاب بها قبل الانطلاق كمضيفة الطائرة التي تطلب ربط الأحزمة قبل الإقلاع .

_ ياهاشمي أنتم تحرقون هوياتكم هنا في نفس المكان الذي أحرق فيه طارق بن زياد مراكب جنوده .

ضحك حتى برزت أسنانه التي تخفيها لحيته الكثيفة لكن ذاكرته مازالت تلهبها سياط الموقف المفجع .. ولهذا تطايرت عيناه مع أول مجموعة قادمة للشاطيء .. طار كصقر خلف فريسته ثم عاد بعد أن انتهى من بيع الجيلاتي وجلس القرفصاء وأمامه صندوقه وقلبه يدق كطبل أفريقي وقال :

_ لقد كان البحر مخيفا .. كنا كخنازير في حظيرة .. رائحتنا نتنة .. البعض منا كان يقضي حاجته دون حياء .. توقف المحرك الذي كان يدفع بالقارب إلى الأمام .. بدأت أمواج البحر ترتفع كلما دخلنا تلك الظلمة الحالكة .. كنا نسمع طقطقة الخشب الذي يلف القارب من كل مكان حتى أصبحنا نسبح وسط غمامة .

كلما توغلنا في العتمة شعرنا بأنها النهاية لأن الموج يزداد علوا .. وأصبح القارب يفقد توازنه .. وارتفع كالدلفين الذي يداعب الموج .. ثم سقطنا جميعا وسط صرخة جماعية في جوف ذلك التيه .. بدأ صراعنا مع الموج والموت حتى أصبحت أصوات الآخرين تغيب وتأتي .. جال في خاطري أنهم ماتوا .. لا بل التهمتهم الأٍماك الكبيرة .. صوت آخرهم كان يستغيث بأمه ومازال صراخه ناقوسا يدق في رأسي كلما تذكرت هذه الرحلة الرهيبة .. تأملته كثيرا لأنه فتا يافعا .. لكنه معاق .. أقدامه ميتة لكنه كان يحلم بالضفة الأخرى .

أجساد رفاقي أصبحت تطفو فوق سطح البحر .. لاحت لنا أجسامهم بوضوح بعد أن بدأت خيوط الفجر تظهر وتشكلت فوق البحر حياة جديدة .. ولم يبق حيا سوى اثنين تعلقا بألواح صغيرة تمزقت من القارب .. قمنا بالصراخ لسفينة قادمة حملتنا للأمن الأسباني الذي أعادنا بالضرب المبرح إلى تطوان من جديد .. أما تلك الأجساد فأصبحت تطفو فوق مياه البحر وترسم فوقه لوحى سيريالية مذهلة كانت ككلاب البحر التي هربت من صقيع المضيق .

التصقوا بقوارب الموت والتصقت هي الأخرى بهم وأجلت حلمهم الوردي من أجل البحث عن الخبز والحرية .. لقد كان بحثا عن حياة كريمة لكنها في مطبخ الجيران .. بعد أن عجز مطبخ الوطن عن أداء دوره .

حكاية قوارب الموت تفتح في الذاكرة أفاقا شاسعة أمام العقل وكأنها روايات حدثت للتو وهي مغامرات تجعل خيالك يتأهب دون عناء .. إنها محاولات الهروب نحو الشمال الغني .

فتح الهاشمي صندوقه بحثا عن بقايا سجائر يحتفظ بها .. ثم قال : خاصني ندير مستقبلي , ندير علي راسي , سمعت ولد دربنا جاء تطوان ليركب القواربقلت تجرب أنا الآخر ولازال الهاشمي يحلم بالشمال ررررغم الذي جرى له من ألم ومعاناة

إنه حوار الجنوب والشمال ومحاولة اللعب سياسيا على ورقة الجنوب الفقير والشمال الغني والترويج للعولمة والشركة التوسطية وحوار(( 5+5 )) إلا أن قوارب الموت لم  تنته حتى يصبح الجنوب قادرا على العيش بشكل متكافيء مع نظريه الشمال ويتحقق الحلم الذهبي على العيش بشكل متكافيء مع نظيره الشمال ويتحقق الحلم الذهبي ..    DORADO ELSUENO )) )) كما يقول الأسبان لأن الجنوب لازال يحلم بشمس مغايرة .

أخذ الهاشمي صندوقه ضاحكا واندفع مهرولا نحو البحر .. لكن حلمه مات خجولا فوق وجنتيه .. البحر هربت منه الشمس وبدأ الغروب يصنع لونه البانورامي وتذكرت ( هيكل ) في مقاله عن المغرب حين كتب يقول :

عندما غربت شمس العرب في الأندلس كان الليل في المغرب موحشا .

وبدأت الوحشة الليل تسري على تلك البيوت البيضاء ومداخنها التي تنتصب كالأعمدة على شاطيء وأعود لحجرتي الصغييرة وسيناريو قوارب الموت كأنه شريط خياله يرفض التلاشي ولم أخرج من هاجس الهاشمي والقوارب إلا حينما انبعثت رائحة السمك من تلك النافذة .. حينما سقط في ذلك الزيت المغلي ورغم سيطرة الرائحة على المكان لكنها لم تلغ الذاكرة .

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة

PNFPB Install PWA using share icon

For IOS and IPAD browsers, Install PWA using add to home screen in ios safari browser or add to dock option in macos safari browser

Manage push notifications

notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications
notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications