مجد العماري
كانت أصابعها تضغط على فناجين القهوة الباردة كأنها تُمسك بحجرين من جليد. من النافذة، تسلل ضوء الشتاء الرمادي ليُلطّخ وجهها بظلٍّ متقلب، بينما كان هو يحدّق في البخار المتصاعد من فنجانه كأنه يترصد شبحاً.
ألا ترى أن السحاب اليوم قريب؟ قالت بلهجة مَنْ يدفع مسماراً في جدار قديم.
لم يرفع رأسه. راح يعدّ شقوق الطاولة الخشبية التي تشبه خطوط كفّيه: تسعة عشر شقاً، واحد لكل عامٍ من عمر المقهى.
– السحاب دائماً بعيد – همس.
صوته خرج كدخان سيجارتها المطفأة. كانت تعلم أنه يكره استعاراتها عن السماوات، لكنها أصرت أن تريه كيف “يمكن للمرء أن يلامس القمر إن امتلك إصبعاً أطول بسنتميتر”.
في الزاوية، ارتطمت ملعقة بصحن خزفي. ارتعش فنجان القهوة بين يديه، فانسكب منه نقطتان: واحدة على ساعته المكسورة، والأخرى على قصيدة نيرودا التي كان يخبئها تحت الجريدة.
– أليس هذا ما أخبرتك به البارحة؟ – حشرت أصابعها بين خصلات شعرها الأسود كأنها تبحث عن شيء فُقد في العتمة – يجب أن تتعلم…
– أن أكون؟ – قطع عليها، للمرة الأولى منذ أربعين دقيقة.
صمتت. من وراء النافذة، مرّت سيدة عجوز تجر عربة تسوق فارغة. عدّدت السيدة أضلاع العربة المعدنية بصوت عال: “واحد… اثنان…”، ثم اختفت كظلّ.
– أعطيناك كل ما لم نكن نحن – قال وهو يلوي حافة الجريدة كأنه يطوي رسالة قديمة – حتى الصمت.
كانت ساعتها توقفت عند الثالثة صباحاً، اللحظة التي قرر فيها ذات مرة أن الحب قد يكون مجرد انتظارٍ طويل لفهمٍ لن يأتي.
– ألا تخاف أن تصبح مثلهم؟ – أشارت إلى الزوجين الجالسين أمامهم، يتقاسمان كعكة بلا كلام، بأسنانٍ تُصدر صوت فرشاة جافة على رخام.
ابتسم. كانت ابتسامته تشبه تلك التي يرسمها الأطفال على بالون قبل أن يطلقوه في الهواء.
عند المغادرة، حاولا عبور الشارع معاً. تقدمت خطوتين، فوجد نفسه يتتبع ظلها الذي التصق بالأرض كقطعة قماش مبللة. فوق الرصيف، كانت ورقة جريدة مُمزقة ترفرف: “مطلوب عاملون… خبرة… شهادة…”. ركلها بحذائه البالي، فتوقفت عند قدميها.
– انظر – قالت وهي ترفع الورقة – حتى الأشياء التالفة تبحث عن وظيفة.
أمسك بيدها فجأة. كانت راحة كفه تعرق كزجاج نافذة في يوم ماطر. توقفت أنفاسهما عند منتصف الطريق. سمعا دقات ساعة المبنى الحكومي تهبط كالمطرقة على أجراسٍ خرساء.
في تلك اللحظة، أدرك أن يديه لن تصل إلى السحاب، لكنهما قد تتعلمان يوماً أن تحملا المطر دون أن تنزلقا.