رزان نعيم
على تمام الساعة السابعة صباحا …بدءوا يحطمون الجدار …سمعت صوت ارتطام أحجاره، صوت سقوطها ،يسقط معه حكاية …عمرها بعمر الجدار …
عندما بنوا ذلك السور فوق المنزل …ليفصل سطحهم عن سطح دارنا ،طلبنا منهم أن لا يكون مرتفع هذا الجدار ….طلبنا منهم أن يبقى لنا صوت ..مكان نجلس عليه؛ ويدور حوار ….سمعوا لأمنيتنا ..كانوا كرماء معنا …ونحن جيران …والجار لسابع دار الآن … ماذا يحدث !!! ولماذا يفاجئونني بقرارهم ….
بالأمس قالت زوجته:
-سيبني لنا عمي بيتا مستقلا…هنا على هذا السطح !!
نهضت باكرا جدا…أحببت أن أستعد للحدث ،وكأنني غير مصدقة الآمر، ولكن هاأنذا أسمع أصوات عمال البناء ..معاولهم تهدم…وضجيجهم …يصم أذني …أنهم يحطمون بقايا السور المنخفض الذي يفصل دارنا عن دارهم، السور الذي يجمعنا كل ليلة للسهر والحكايات ……يصلني صوتهم ..واسمع في داخلي صوت تحطم وهمّّ كبير عشته طوال عمري ….
أخذت استعد لمغادرة المنزل ،فبعد قليل عليّ أن أجهز ليصطحبني أبي كما كل يوم إلى عملي …حيث يصر عل حمايتي لآخر لحظة، من المشي في الطريق…. وأنا بهذا الشكل …فتاة عرجاء …ولا يقبل مني الذهاب في سيارة العمل لأنها تجمعني بالزملاء والزميلات …
يصافحني وجهه في المرآة …يحدق باستغراب ..أنظر إليه بذهول ..لكن صوته القوي فاجأني :
-لماذا تأخرت اليوم في ارتداء ملابسك ..تبدين متعبة وكأنك لم تنامي طيلة الليل ؟؟
-لا…أجل ، أنا متعبة ” ويتناهى لي صوتي واهنا ..ظاهرا الإعياء أو هو كذلك …فلا أميز هل أنا مدعية كاذبة أم أنها حقيقة أشعر بها ……لكنه يسارع للتخلص من عبئ مرافقتي:
-إذا” ..أبق اليوم في البيت ..لا تغادريه ..!! مالك ومال التعب والعمل !!!!
بعد أن التقطت أذناي صوت اصطفاق الباب خلفه …انخرطت في بكاء مفاجئ، وكأن لدي مخزون هائل من الحزن أريد أن أفرغه بلحظة واحدة !!!
فهل ألوم أبي وأمي اللذان قصرا بحقي أنا دون أخوتي …فأصابني شلل الأطفال دونهم…أم يلام هو ….الحبيب الأول ..الذي تفتحت مشاعري البكر على حبه !!؟ فلم أرى سواه، لأنني …لا أسير مشيا على الأقدام كثيرا في الشارع…وهم جيراننا …كنت أفضل النزول إلى دارهم عبر السطح …حيث أتسلق سطحنا من السلالم ثم أقفز السور الواطئ بكثير من حذر والفاصل بيننا ثم أنزل من على درجات سلا لمهم المؤدية إلى فسحة الدار عندهم… كنت أعلم أنهم يحسون بقدومي …من صوت أقدامي التي تنوء بثقلي على درجات السلم …لكنني أنسى عاهتي حين تشرق ابتساماتهم …الحارة تستقبلني ،وفرحة أمه…. بوجودي معها في الدار أحمل عنها بعض الأعباء …تسعدني !!! بناتها يذهبن أما للجامعة أو للعمل ،وأنا لاشيء أتوسله في فراغي الكبير غير ذلك …ووالدي الرافض دوما خروجي من البيت حتى لا أبتلي بنظرات الجميع إلى عاهتي …حتى فضلت أ ن لا أصل بيتي الملاصق لبيتهم من خلال الشارع ،بالرغم من ضيقه ومعرفة الجيران لي ……
حينما اكتشفت سعادتها تلك …أخذت نفسي تطمئن لهم ولترحيبهم ومحبتهم،…..ولطالما أحببت التسكع في دارهم ،حيث يملؤني حلم صاخب …..هو أن يثير وجودي حياة “وليد” ولطالما عدت إلى فراشي في المساء أتسلق سلالم البيت،أحمل حقائب ملآنة أسى ..على انتظار عقيم في الصباح ، انهض …ينهض الأمل في جوانحي ..وأنا أتأمل وجهي في المرآة أجمل ما أملك …العينان الخضر واتان الواسعة ،والبشرة ناصعة البياض …و أسأل نفسي ؟ إلى متى سيبقى مغمض العينان ؟؟؟
والى متى ستبقى الرغبة عندي في إثارة اهتمامه؟؟؟
لكن مع مرور الأيام …وجدته يرسم ابتسامات عذبة ،ويلقي بتحية الصباح لي بطريقة مختلفة ..ثم يأخذ بفتح حوارات معي حول شؤوني الخاصة ….ما اعتدتها منه قبلا..!!! وفي أحد الصباحات فاجأني بسؤال:
– “سعدى”… لماذا درست وتعبت حتى نلت الشهادة في علم الإدارة ؟؟ ولا أجدك إلا هنا مع والدتي تساعدينها في شؤون المنزل ..وبعد أن تنهي أعمالك في البيت …؟؟
-وماذا تريدني أن أفعل غير ذلك
-لا تستسلمي ، أقنعي والدك بالعمل ..أسوة بأخواتك ..أنت رائعة ولا…ولا يعيبك شئ …”قالها ولم يلق بالا” أو نظرة إلى عاهتي …”
يومها شعرت إنني يجب أن أخرج وأسير في الشارع لأصل بيتنا وليس عن طريق السلالم…كنت خفيفة الحركة مثل ريشة …كلماته أنعشتني …وزرعت الأمل لدي …..
ويوما بعد يوم ،أصبح هذا الحديث يشدني إلى وهم كبير …بأنه يحبني !!! كان يكبرني بعام واحد …لكن هذا الوهم كاف ليقتل ضجر العمر من حالة العنوسة!! وقتها ،كنت أنظر للحب والحياة والزواج من ثقب صغير على واجهة عريضة للزمن تحمل لافتة صغيرة مكتوب عليها “كوني امرأة عاملة عضو فعال في المجتمع”
وانطلقت أتوسل أبي ليسمعني …بل أخذ صوتي يعلو ويصبح أكثر قوة وإقناع وطلبت منه أن يساعدني للحصول على وظيفة …وكان لي ذلك …ولكن بشروط والدي…..:
– تعملين في مكان قريب وفي سلك التعليم وأنا من يتولى مرافقتك للعمل بسيارتي …قبلت ..فهذه خطوة رائعة …وشرفة واسعة أطل منها على عالم يزدحم بالجديد والمثير…وهناك حيث كانت بانتظاري فعلا “فتون “زميلتي بالعمل والتي حكت لي قصة زواجها المتأخر …عمرها تسع وثلاثون عاما وزوجها يصغرها بست سنوات ؟؟؟وبررت استغرابي بما حصل وقالت : تعرفت عليه منذ سنة واحدة جاء مراجعا للمدرسة ليطمئن عل ابن أخيه …فأخذت أبدي اهتماما به …وأعجب بي …ولا تنسي إنني امتلك شقة وأحوالي المادية جيدة …وفتن بي وهاأنذا كما ترين حامل للمرة الأولى …فدعي الأمل يغمرك …سيأتي نصيبك في هذه المدرسة “ياسعدى” …
كنت أعود منهكة وتعبه لكنني محملة بجعبة من القصص والحكايات علي أن أفرغها …..والسطح حاضر على الدوام ..وحينما ينكفئ أخر ضوء للنهار نستلم خيوط العتمة الساترة فنسهر ونعتلي السور الواطئ …. نجلس عليه ،ونرمي بأقدامنا تتطوح في فراغه …مثل الحكايا …هذا السور مازالت له نفس الروعة التي كانت قبل سنين مضت، حيث اعتادت شقيقاتي وقبل زواجهن، وشقيقاته أيضا……… أن يجتمعن وتفرغ كل واحدة جعبتها …كنا نرصد العابرين في الشارع !!!من أبناء الجيران … نتحدث على كل واحد منهم وكأنه استثناء في حياتنا ؟؟؟
يطول السهر ….وفي مرات عديدة نحاول اختراق حصار الهاتف المفروض علينا في ذلك الوقت !!! حيث قررنا شراء جهاز وأخفيناه لاستعمالنا السري في تلك السهرات …نصعد إلى السطح ..ونأخذ السلك الهوائي لخطنا الهاتفي وربما لخطهم لا فرق ..وحتى أننا تجرأنا على سرقة خط جيراننا اللذين كانوا مسافرين في إجازة ….كل هذه المغامرات من أجل الاستمتاع بحديث هاتفي تافه !!! ومع شخص مجهول لا يعرفنا ولا نعرفه ..المهم لدينا سماع صوت ذكوري يرد على الطرف الثاني !!! وكم من مرة خاب أملنا وسمعنا توبيخا لم يثر لدينا إلا الضحكات …… لا أكثر ولا أقل !!
السطح ، والسور الواطئ، كان متنفسا جيدا لبنات محاصرات في المنزل صيفا وفي الشتاء بالمدرسة ..الآن ،أصبح للسهر طعم مختلف ..ونكهة خاصة ، أحاديث عن زملاء العمل …وآمال بالزواج ربما تتحقق ..وقصص وحكايات متناثرة من هنا وهناك …تسد فجوة الوقت الضائع …. وفي سهرة قبل عام …قررت جارتنا تزويج “وليد” …هكذا نزل الخبر علي مفاجأ” …حين قالت أخته:
-سوف نخطب لوليد ابنة خالتي!؟
تمت المراسم بسرعة عجيبة …”هكذا رو ادني شعور “!!!!
ونحن الجيران أول المشاركين والمهنئين في كل الطقوس ..وعلينا تقديم الواجب والخدمات …وعلينا أن نفرح لهم، والفرح بالنسبة لي ..له طعم آخر…طعم مرّ ..وفيه تختلط المشاعر ،حيث يمتزج الفرح والغبطة وحنان مكسور بمدى الانتظار ….وقتها تأخذ العين تستدعي دمعها….
تلك الحيلة نلجأ أليها بعد أن نكبر ..نبكي مدعين المرض والتعب …تماما مستعيدين إحساس طفولي عذب ..ولكن بصورة مختلفة…لكن الشعور هو نفسه ..الحاجة للحب والحنان هو ذاك الذي نفتقده!!! وحين ننال المشتهى ..نمتلكه إحساسا ومعنى ..نحتويه داخلنا متجسدا في الأعماق كطفل نال كل ما يريد …فتقفز للعين دمعة ولا نعرف كيف نصفها …!!
وربما كنا نحتاج إلى صفعة ..فقط لنتأكد من الحقيقة متجسدة وليست حلما بعيدا فحصل أو واقعا فرض علينا فقبلنا به …
فقط حينما تركض السنين على ملعب الزمن كخيل جامح لا يعرف مبتغاه …لا تعنينا الأيام ولا نحصيها ..نجري معها مغمضي الأعين عن الأشياء التي نخفيها ولا نظهرها للآخر ..خجلا” ،وربما خوفا”!!؟؟
هي تلك ، الساعات ..التي توقف الزمن ..ونتمنى أن لا يمضي العمر بنا نريد الخروج من إطاره الوقتي الذي يحدنا بالآخرين وهم يراقبون ما ظهر من سعادة على وجوهنا وأيضا ما قد نخفيه من خيبة داخلنا …هكذا تم الزواج…
لكن الأزمة ،مرت بسلام …وسكنت عروسهم إحدى غرف الدار …وبعد أيام أصبحت هي الأخرى من رواد السطح ..لدرجة أنني اتخذتها صديقتي المفضلة …أحببتها ،لا أدري كيف ولماذا …ربما نوع من التواصل في الحب …بحيث أمرر حبه عبر حبي لها وإخلاصي أيضا ….كون الحقيقة طي الكتمان أعيشها بمفردي …وبقيت سعيدة جدا”….المهم، أن السور الواطئ مازال يجمعنا في الليالي ..ومنها أسمع أخباره وربما بت أعرف أكثر عن تفاصيل حياته الخاصة أعرفه كيف يمكن أن يكون حبيبا وزوجا وماذا يقول لها من كلمات غزل ….وفيما أذهب لتوسد مخدعي ..أسقط ما أعجبني من عبارات قالها لها على أنها هي لي لشخصي …وأروح ابني عليها قصصا وحكايات لن تحدث ..حتى يغلبني النعاس فأنام…
لأنهض من جديد …نهار …آخر أحمل في صدري أملا” وتفاؤل بالحب القادم من خلال العمل ….
الأمسيات، التي سبقت أمس ….رو ادني شعور بالخوف …كانت تحكي لي أن خالتها تزعجها ..وأنها تريد الانفراد ببيت تكون سيدته …لكني طمأنتها أن هذه المشاكل سوف تنتهي بعد زمن …وفي قرارتي كنت خائفة …لو فكروا بالرحيل ..والاستقلال ببيت لهم …لو انهم ذهبوا إلى مكان بعيد لا أستطيع رؤيتهم ..أو حتى رؤية صغيرهم القادم ….ماذا سيحدث لي ؟؟؟
لكنها بالأمس ألقت بالخبر ..وكأنها تلقي بحجر في بركة مياه قالت:
-قرر عمي أن يساعدنا …..لن نستطيع الحصول على شقة بما يملك وليد من مال لكن عمي ،سيبني لنا دارا” هنا على هذا السطح الواسع ..”وقتها فقط رأيته ضيقا” ..وأخذ يضيق صدري ..وانبعث من الداخل صوت رافض للحل ..وصرخت:
-لا…لا، ونحن كيف وأين نسهر …”من جديد اكتشفت أن صرختي مثل معزوفة نشاز على آلة صدئة أزعج الآخرين بهمومي وأوهامي …” لكن أخته ولأول مرة تلحظ شعوري الحقيقي فقالت:
— مار أيك لو نقترح أن يكون هناك بابا يطل على سطحكم من الشرفة ؟؟
— رائع ..سنتواصل عبره ..ولكن من أي جهة سيفتح هذا الباب من سطحنا أم من شرفتكم ؟؟
— لا أدري …لكني أعلم فقط أن العمال قادمون غدا” في الصباح البكر…هذا ما أعرفه !!
انطلقوا ..جميعهم ينامون في أسرتهم هانئين وبقيت وحدي أودع هذا الفضاء الذي كان رحبا يتسع همومي والذي سيضيق من الغد ليتسع أسرة صغيرة …وحدي أختزن الحزن في جهة من قلبي وفي جهة أخرى منه يحدوني الأمل أن يبدل السور الواطئ بباب مشترك أو حتى نافذة ..أو ثقب صغير لأطل منه كل مساء على عالم صفع أحلامي بقسوة!!!!