بدعوة من سبع نقابات عمالية، نظمت اليوم في فرنسا حركة احتجاجية واسعة ضمت إضرابا عاما عن العمل في عدة قطاعات حيوية بالإضافة إلى التظاهر في كافة أرجاء البلاد بهدف ممارسة أقسى أنواع الضغط على رئيس الحكومة المكلف سيباستيان لوكورنيه لدفعه إلى تقديم المزيد من التنازلات لا سيما التراجع عن سياسة التقشف وفرض ضرائب أكبر على أصحاب كبرى الثروات في البلاد لسد عجز الموازنة.
احتجاجات غير مسبوقة
دخلت فرنسا اليوم الخميس في إضراب واسع ضم قطاعات عديدة، حيث يخوضه نساء ورجال التعليم وسائقو القطارات والصيادلة وموظفو المستشفيات ويعد من أكبر موجات التعبئة الاجتماعية منذ بداية ولاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث خرج مئات الآلاف في أكثر من 250 مسيرة بمختلف المدن، تخللها إضرابات واسعة.
800 ألف شخص يشاركون في الإضراب
ذكر مصدر في وزارة الداخلية ل “فرنس24 “أن نحو 800 ألف شخص من المتوقع أن يشاركوا في الإضرابات والاحتجاجات. وقالت النقابات الرئيسية في البلاد في بيان مشترك “العمال الذين نمثلهم غاضبون”، معبرين عن رفض الخطط المالية “القاسية” و”الجائرة” التي وضعتها الحكومة السابقة.
وبلغ عجز ميزانية فرنسا العام الماضي ما يقرب من ضعف الحد الأقصى المحدد من الاتحاد الأوروبي البالغ ثلاثة بالمئة. ومع أن لوكورنو يرغب في تقليصه، سيخوض معركة سياسية لحشد الدعم البرلماني لميزانية 2026، إذ يعتمد على أحزاب أخرى لتمرير التشريعات.
وقبل أسبوع، أطاح البرلمان بسلف لوكورنو، فرانسوا بايرو، بسبب خطته لتقليص الميزانية بمقدار 44 مليار يورو. ولم يعلن رئيس الوزراء الجديد بعد عن موقفه من خطط بايرو، لكنه أبدى انفتاحا أمام تقديم تنازلات.
اعتقالات وتوترات أمنية
أعلنت وزارة الداخلية عن توقيف 58 شخصًا وسط توتر أمني غير مسبوق.
وقالت إذاعة “20 مينيت” الفرنسية، إنه “مع أن السلطات قللت من حدة التعبئة ووصفتها بأنها “أقل مما كان متوقعًا”، إلا أن الأرقام كشفت حجم التوتر القائم بين الشارع والحكومة، حيث سجلت أكثر من 250 مسيرة وتجمع، بمشاركة قد تصل إلى 800 ألف شخص”.
وأعلن وزير الداخلية المستقيل برونو ريتايو، أن تسجيل 230 تحركًا و95 محاولة تعطيل، شارك فيها 10 آلاف شخص.
وأكد أن الشرطة نفذت 58 عملية اعتقال، بينها 11 في باريس. أما مرسيليا، فسُجلت فيها 22 حالة توقيف صباحًا قرب مركز “تيراس دو بورت”، حيث صودرت معدات من أقنعة وبخاخات طلاء ومفرقعات.
تعزيزات أمنية مشددة
ونشرت السلطات الفرنسية تعزيزات أمنية ضخمة، بينها آلية مدرعة جديدة تعرف بـ”السينتور”، مجهزة بكاميرات حرارية وقاذفات غاز مسيل للدموع. هذا الانتشار، الذي اعتبره مراقبون “رسالة سياسية أكثر منه تدبيرًا أمنيًا”، عكس حجم القلق الحكومي من انفلات الشارع، وفقاً للإذاعة الفرنسية.
وفي العاصمة باريس، حيث تتراوح التقديرات الرسمية بين 50 و100 ألف متظاهر، انطلقت الحشود بعد الظهر من ساحة الباستيل باتجاه الجمهورية ثم الأمة، ضمن مسار تقليدي اعتادته النقابات، بحسب الإذاعة الفرنسية.
ووفقاً للإذاعة الفرنسية، فإن المدن الأخرى لم تكن أقل حضورًا: مرسيليا شهدت تظاهرة ضخمة انطلقت من المرفأ القديم، ليون احتضنت مسيرات طلابية ونقابية مشتركة، فيما تحركت الحشود في ليل شمالًا ورين غربًا، إلى جانب مدن مثل نيس، لوهافر، أفينيون وشيربورج.
مطالب المتظاهرين
وترفع النقابات الفرنسية قائمة واسعة من المطالب، على رأسها التراجع عن حزمة إجراءات تضمنتها خطة بايرو للتقشف ووُصفت بأنها “قاسية وغير مسبوقة”.
وفي بيان مشترك نهاية أغسطس، نددت النقابات بما اعتبرته سياسة “تحميل عبء الإصلاحات للعمال والعاطلين والمتقاعدين والمرضى” مشيرة إلى أن خطة المالية المقترحة تتضمن “تخفيضات في الخدمات العامة، إصلاح جديد للتأمين ضد البطالة، تجميد المساعدات الاجتماعية ورواتب الموظفين والعقود المؤقتة، فك ارتباط المعاشات بالتضخم، مضاعفة الرسوم الطبية، وحتى طرح فكرة إلغاء الأسبوع الخامس من الإجازة السنوية.
موقف لا رجعة فيه
تُظهر الاحتجاجات الواسعة التي عمّت فرنسا مؤخرًا مدى عمق الهوة بين الحكومة والشارع، وتعكس رفضًا شعبيًا متصاعدًا لسياسات التقشف والتوجهات الاقتصادية التي يُنظر إليها على أنها تمس الفئات الأكثر هشاشة. ومع أن الحكومة تحاول الحفاظ على الانضباط المالي، فإن حجم الغضب الشعبي والتعبئة النقابية يشيران إلى ضرورة مراجعة هذه السياسات وتقديم تنازلات حقيقية. وبينما تبقى فرنسا في مفترق طرق سياسي واقتصادي، فإن قدرة الحكومة على احتواء الأزمة والاستجابة لمطالب المحتجين قد تحدد شكل المرحلة المقبلة، داخليًا وأوروبيًا على حد سواء.