ا.د حمام محمد
أقدم هذه الدراسة حول قصة “مقهى الزمن المعتَّق” للقاص الليبي مجد الدين العماري .. فعادةً ما يألف المبدعون إخراج الضوء الإبداعي من تصوير حديث المقهى في شُبْهة تعني أن السيناريو سوف يخرج مُلهمًا، أو أن المزاعم ستتوالى من خلال الإشارة إلى الكاريزما. وأنا أجول في قصة قصيرة للقاص الليبي **مجد الدين العماري** بعنوان *مقهى الزمن المعتَّق*، طالتني عتبات شهية لعرض هذا العمل المبدع في صورة حكاواتية جميلة، أذهب من خلالها إلى طرق شيئين اثنين
– أسلوب القص
– تشبيك الأحداث في المقهى.
* أولا: أسلوب القص
استعمل القاص أسلوب سرد يعتمد على المؤانسة مع التشبيه، مُكثِرًا منه إلى حدٍّ كبير. وهو تزيين للمعنى بطرح معجمي يفهمه المتمرّسون في مضامين القص. يجمع أسلوب السرد بين إحياء نوعٍ من الاستماع المؤدي إلى التمعن واستخراج الأفكار دون تردد، بالنظر إلى الجانب الكمي في التشبيهات البلاغية وحتى المتناصات. وهذا ما يُؤخذ على القاص، فكأنما أشبع الحواس بروائح العسل وهو يُضيء صباحات المقهى.**مثال:** *المقهى نيرو*… الاسم ذو دلالة ربما يعرفها المحلي، وفي الأدبيات المقارنة يجعلها القارئ بين “نيرو” و”النيروز” على حد سواء. وهذا التشبيك إنما يؤدي إلى خاصية أن المقهى يرسم فعلًا كلاسيكيًا ممهورًا عند مستخدميه من الأجيال المتقدمة. وإذا كان الاسم مجرد أيقونة ماضية، فهو كلاسيكي سيدعو إلى استنتاج الأحداث من مركزها في الجيل المعاصر.، دعني أقول: إن تركيب المقهى بروائح البن كان حاضرًا من خلال ملفوظ المقهى في إطاره المتفق عليه، فالمقهى عادةً لا يبيع البن فقط، بل تمتزج فيه روائح أخرى من الشاي والمشروبات النيكوتينية. التواصل هنا امتداد في أسلوب التكرار الذي نعتبره حيلة للتشديد على أن ما يجري في المقهى سيكون من طلاسم حوادث الماضي. وهنا يظهر حنين الذكريات.

وزادت شقوق الطاولة احترافية التفهيم، فالمقهى والبن ونيرو وشقوق الطاولة كلها تناصات على أن الحكي فيه شهية ملامسة للحنين إلى ما مضى. والغريب إبداعيًا هو التشبيه البليغ الذي أثرى به شكل الطاولة بتخطيط راحة الكف، وكأنه يقول: أنا جوهري غير بعيد. والربط هنا مسألة قصية بروائح الياسمين، مما يدل على أن الأبواب والنوافذ كانت مشرعة،النص مثير إبداعيًا لأن الياسمين ارتبط بأول زائر قذفه القص إلى مكانه. أما حكاية الفستان الزهري الموشوم بالأزهار، فقد أراد القاص أن يُبرز تفردها في قاموس النظر، كناية عن التميّز. وهذا يقودنا إلى فهم إكسسوارات المحبة عند الكاتب، في استدعاء شبيه بحكايات كافكا في حب الورود. فالقاص يُظهر أنه مولَع بالزهور كحال أي مبدع.أما جلوس البطلة وهي تحدّق في فنجانه المعلق بين سبابته وإبهامه، فقد أضفى على القصة رؤى تخييلية، كأنها تشبه ليلة القبض على الرجل في فيلم *موسكاردا* أو مشهدًا غامضًا خلف قاعدة المشبه.
ثانيا: التشبيك النصي الجميل
منذ البداية، كانت حركة التشبيك حاضرة في خُلد المبدع كأنها طائرة تريد أن تحط في هبوط اضطراري. فمعاني الإعجاب ورقّة الكائن الزهري إنما سلّطت فكرة الرسام وهو يدون لوحته. هنا يظهر التشبيك النصي الذي يتطور المعنى من خلاله، والمقصود به عملية الترابط بين المتفاعلات النصية، وهي:
* المدينة من الخارج.
* المطر.
* الضوء الكهرماني.
* القهوة الباردة.
* عودة الموتى.
وفي الأخير، أثناء إرواء التشابك، يتبين أن القصة وما فيها محاولة إحياء واقعة طريفة حدثت في *مقهى نيرو* المغلق منذ عشر سنوات. أعادها القاص بمنظر روائي يحكي لصديقه عن حكاية رومانسية لم تظهر مكامنها. وكأن الأمر بدأ بالوصف وتعميق الحكاية من الداخل، لكن التفاصيل ظلت مؤجلة ربما لجزء آخر يتوالى لاحقًا.
القصة جيدة من خلال الطرحين: بالنسبة التشبيهات ، إبداعية ولغوية، لكنها بكثرة مبالغ فيها حتى تشبه فيضان الكأس الذي يحوي مشروبًا سريع اللذة و متتاليات القص: جيدة بدورها، كأنها لقطات فيلمية مبهرة. وبخصوص الاستعمالات والتشبيهات هنا أشبه بإكسسوارات فيلمية ذات رائحة ولون، تُذكّر بأجواء *تيتانيك*.
لقد استمتعت بالتنقيب في النص، لعلّي أعثر على كائن أزرق يغوص بلا غرق. وجدتُ القاص بحاجة ماسّة إلى استرجاع الذكريات، وله فيها مأرب صادق، يتضح من خلال استدعاء الجدة وتأثره بزمن مفقود. يظهر هذا جليًا في تركيزه على المكان، الزهور، وقشور البيض، وهي كلها حكايات من الماضي البعيد، ولعل اهتمامه الخاص بحكاية الفنجان والأزهار والرقة سيدفعني، في عمل قريب له، إلى استحضار تدفق رائحة العاطفة الجوالة في قصص هذا المبدع الجميل.
–