انتصار بوراوي
تهمس للرجل الذى يحاول أن يراها، بأنها مجرد طيف، وأن خياله فقط هو من صور له بأنها امرأة من لحم ودم، ولكن الرجل مصر على إزاحة الستارة التي تحجبها عنه ويقول لها بأنه تولع بروحها وخصب عاطفتها، وجموح مشاعرها الدافئة، تبتسم من وراء الستار وتقول له : هذا ما تبقى فقط من المرأة التي ماتت هذه بقاياها التي تحدثك من خلف ألف ستار وستار، ومهما حاولت أن تمد يديك كي تزيح الستار الحديدي الذى يحول بينك وبينها فلن تفلح، فلقد حاول الكثيرين قبلك فعل ذلك ولكن كانت أياديهم ترتد خائبة وخاوية لكن الرجل لا يريد تصديق بأنها محض طيف ويحاول أن ينفخ في روحها الحياة لتعود من جديد امرأة من لحم ودم تصهل بالفرح، وتغنى بصوتها الجميل كما كانت تفعل في حياتها الغابرة وتعلو ضحكاتها وهى تركض في طريقها لتحتضن الحب وتلمسه بيديها، وتشم رائحته ، وتشاغبه وتشاكسه وتكتسحه بعنفها اللذيذ ولكنه لا يفلح وكلما حاول أن يخترق الستار الحديدي يرتد للوراء ، وطيفها يتأمله بصمت، لم تعد تتكلم، لم تعد تسرد حكايتها ، تحدق به وبكل الذين يحاولون رؤيتها ، كي يتأكدوا بأنها امرأة من لحم ودم وليست مجرد طيف شبح امرأة كانت تقطن في الجوار، حلقت في الأعلى منذ أن انغرس سكين الفراق في قلبها …
صديقتها أيضاً التي فقدت أخيها منذ أشهر، لا تصدق بأنها طيف امرأة، وليست صديقتها السابقة التي كانت ممتلئة بالحياة والأمل والفرح يأتِلق من عينيها النجلاوين تطلب منها أن تشاركها البكاء على الميت دون أن تعرف بأنها تعيش مع الموتى، تنغز مكمن جرح الموت بسكين الذاكرة فيتهاطل دم الجرح النازف، ترجو صديقتها أن تصمت فنحيبها يوجع الموتى ويجعلهم يتقلبون في قبورهم، ولكنها تصر كل ليلة على نكأ الجرح، والبكاء فوق رؤوس أحبائها الموتى، ترى الدماء وهى تنزف من أرواح الموتى حين يصلهم صوت العويل العالي، لكن صديقتها لا تأبه بكلماتها وتمضى في حفلة البكاء التي لا تريد أن تنتهي، يحدق شبحها في وجه صديقتها، دون أن تبكى أو يهطل من عينيها الدموع التي جفت من كثرة البكاء حين كانت امرأة من لحم ودم، تتأمل صورة الرجل الذى لا يريد أن يصدق أنها مجرد طيف، وليست امرأة من لحم ودم وترتسم ابتسامة على شفتيها وهى تراه يحاول بكل قوته، هدم الجدار الفاصل بينه وبينها، يمر طيفها أمامه ويعبره وينسل بهدوء من أيامه، تنام بجانب أحبائها الموتى تحتضنهم وتسرد عليهم حكاياتها، تقبل عيون أحبائها الموتى الذين يعيشون رفقتها و يلمسون يديها بمحبة، ويبتسمون وهم يتهاطلون في منامها يحضنونها بحب، تسير معهم سعيدة لأنها خلعت أديم الأراضي وأوزاره، وأصبحت شفافة، تدرجت في شفافيتها درجة درجة حتى تخلصت من كل أثقال الأراضي وتحولت إلى محض طيف…