مجد العماري
بسمِ الأثيرِ الذي يحملُ كلَّ صوتٍ، وباسمِ الصمتِ الذي يسبقُ كلَّ كلمةٍ.
كان “أديب” يجلسُ في مرسمه المتواضع، حيث يلتقي غبارُ ألوانِه بغبارِ الذكريات. عبر النافذة الضيقة، كان آخرُ خيوطِ الشمسِ الذهبيةِ تنسجُ رداءً لأغصانِ شجرةِ اللوزِ العتيقة، التي وقفتْ شاهدَةً على أربعين شتاءً من حياتِه. لم يكن أديبُ فناناً بالمعنى الذي تفهمُه الأكثرية. كان يمسكُ بفرشاتِه لا ليُنتجَ لوحاتٍ تُعلَّقُ على الجدران، بل ليصطادَ ومضاتٍ من الحقيقةِ تهربُ من قبضةِ الكلمات.
كانت بين أصابعه ذاكرةُ لمسةٍ واحدة. لمسةٌ حدثَتْ ذاتَ مساءٍ في حديقةِ دارِه القديم، في قريتهُ الشرقيّةِ البعيدة. كان طفلاً حينما مدَّ إصبعهُ الصغيرَ ليلمسَ زهرةً وحيدةً من زهورِ الياسمين. كانت بيضاءَ نقيّة، تتمايلُ بخفرٍ تحت أنفاسِ النسيم، وكأنّها تقول: “ها أنا ذا، ولكن لا تلمسني إلا برقةٍ، فحياتي أقصرُ من أنفاسِك.”
لم يلمسْها. تردّدَتْ إصبعُه في منتصفِ الطريق. خافَ أن يذبلَ الجمالُ بين أنامله. خافَ أن تتحولَ الرائحةُ العبقةُ إلى ذكرةٍ مؤلمة. في تلك اللحظة، بين الإصبعِ المتردّدِ والزهرةِ الوحيدة، وُلِدَ فيه سؤالٌ ظلَّ يرافقهُ كظلِّه: أيُّنا أكثرُ هشاشةً، أنا أم هي؟ أيُّنا أكثرُ عُبوراً، أنا أم هي؟
هاجرَ أديبُ إلى هذه المدينةِ الغربيةِ الكبيرةِ طالباً للعلم، فوجد نفسَه تلميذاً في مدرسةِ الوحدة. صارَ الجمالُ هاجسَه. يبحثُ عنه في وجوهِ المارةِ المتعبة، في زوايا المقاهي المزدحمةِ بالوحدة، في ألحانِ موسيقى تائهةٍ تتصاعدُ من شقوقِ الغرفِ المستأجرة. كان يحاولُ أن يمسكَ بالحياةِ كما حاولَ أن يمسكَ بتلك الزهرةِ ذاتَ مساء. بالكادِ يلمسُها، حتى تتبدد.
في أحدِ أيامِ الخريفِ الماطرة، بينما كان يتجوّلُ في شارعٍ من شوارعِ المدينةِ القديمة، وقعَتْ عيناه على محلٍّ للتحفِ العتيقة. دفعَ البابَ الخشبيَّ الثقيل، فدخلَ إلى عالمٍ من الغبارِ والدهور. وكانت هناك، في زاويةٍ معتمة، مرآةٌ صغيرةٌ بإطارٍ من الفضةِ الباهتة. لم تكن مرآةً عادية. عندما نظرَ فيها، لم يرَ انعكاسَ وجهِه بوضوح، بل رآه كأنه يطفو من خلالِ ماءٍ راكد. كانت الصورةُ مشوّشة، ضبابية، تحملُ في طياتِها كلَّ الأسرارِ التي حملَتها المرآةُ عبرَ القرون.
اشتراها دونَ تردد. حملها إلى مرسمه وعلّقها مقابلَ نافذتِه. صارت عادتُه أن يجلسَ أمامها كلَّ مساء، لا لينظرَ إلى ذاتِه، بل لينظرَ إلى “فكرةِ” ذاتِه المنعكسةِ في ذلك الماءِ الرمزي. كان يسألُ المرآة: “من هو أديب؟ هل هو الطفلُ الذي كان في القرية؟ أم الشابُّ التائه في المدينة؟ أم هو كلُّ الوجوهِ التي التقتْ في هذه المرآةِ قبلي ؟ “
ذاتَ ليلة، بينما كان القمرُ البدرُ يملأُ المرسمَ بضوءٍ أشبهَ بالحلم، رأى شيئاً غريباً في المرآة. لم يعدْ يرى انعكاسَه فقط، بل رأى خلفَ انعكاسِه صورةً باهتةً لشجرةِ اللوزِ في قريتِه، والزهرةَ البيضاءَ التي لم يلمسْها. أغمضَ عينيه ثم فتحَهما. الصورةُ لا تزالُ هناك. في تلك اللحظةِ فهمَ: المرآةُ لا تعكسُ المادّةَ فقط، بل تعكسُ الروحَ أيضاً. تعكسُ الشوق. تعكسُ الغياب.
بدأ مشروعُه الأخير. قررَ أن يرسمَ ليس ما تراه العين، بل ما تلمسُه الروح. أراد أن يرسمَ “الظلَّ”. ظلَّ الزهرةِ التي لم يلمسها. ظلَّ الطفلِ الذي كانه. ظلَّ الأصواتِ التي تاهتْ في أزقةِ المدينة. ظلَّ الحبِّ الذي مرَّ من حياتِه كنسيمٍ لم يُبْقِ أثراً.
كان يخلطُ ألوانَه بالماءِ فقط، وكأنه يرسمُ على سطحِ بركة. اللوحاتُ التي أنتجها كانت أشبهَ بأحلام. أشكالٌ تذوبُ في بعضها، خطوطٌ غيرُ مكتملة، ألوانٌ شفافةٌ تتخللها البقعُ البيضاءُ كأنها أنفاس. كان النقادُ الذين زاروا مرسمَه يحكّون رؤوسهم. البعضُ وصفَ عملَه بالغامضِ وغيرِ المفهوم. آخرون قالوا إنه يهربُ من الواقع. لكن امرأةً واحدةً فقط، هي ماريا، المدرّسةُ الإيطاليةُ للموسيقى، كانت تقفُ طويلاً أمامَ لوحاتِه ثم تبكي بصمت. قالت له مرة: “أنت لا ترسمُ الأشياء، بل ترسمُ الفراغَ الذي تتركه وراءها عندما تذهب.”
كانت ماريا هي الأخرى تبحثُ عن نغمةٍ مفقودةٍ في سيمفونيةِ حياتها. التقيا على جسرٍ من الصمتِ يفصلُ بين لغتين وثقافتين، واكتشفا أن الصمتَ لغةٌ واحدة. كانت تأتي إلى مرسمِه، لا يتحدثان كثيراً. أحياناً تعزفُ على الكمانِ لحناً حزيناً، وهو يرسم. كان الموسيقى واللونُ ينسجانِ حواراً لا يحتاجُ إلى كلمات.
وفي أحدِ الأيام، أحضرَ لها لوحةً كانت مختلفة. لم تكن لوحةً لظل، بل ليدٍ ممدودةٍ على وشك أن تلمسَ زهرة. اليدُ مرسومةٌ بتفاصيلها، بتعرقاتها، بتاريخِها. أما الزهرةُ فكانت مجردَ هالةٍ من الضوءِ الأبيض، كأنها على وشكِ الاختفاء. كتبَ في أسفلِ اللوحة: “بين الإصبعِ المتردّدِ والزهرةِ الوحيدة، وُلِدَ عالمي.”
نظرت ماريا إلى اللوحةِ ثم نظرت إلى عينيه. مدّت يدها ولمستْ يدَه. كانت لمسةٌ خفيفةٌ كالذي يخافُ على ندى الصباحِ من الحرارة. في تلك اللمسة، اختفتْ كلُّ المسافات بين الشرقِ والغرب، بين الماضي والحاضر، بين الرغبةِ والخوف. لم تكن لمسةَ امتلاك، بل كانت لمسةَ اعتراف. اعترافٌ بالجمالِ الهشِّ للوجود، وبأنّنا لا نملكُ سوى هذا اللحظةِ الهاربة.
لم تتحدث ماريا عن الحب. ولم يتحدث أديب عن الوفاء. لكنّها منذ ذلك اليوم، صارت تأتي ومعها زهرةٌ بيضاءُ واحدة، تضعها في إناءٍ بسيطٍ على طاولتِه. كان يعلمُ أنها ستذبلُ في نهايةِ اليوم. وكان يعلمُ أنها ستعودُ بزهرةٍ جديدةٍ في اليومِ التالي. صارَ ذبولُ الزهرةِ وإحياؤها جزءاً من طقسِهما الصامت. رمزاً للاستمرارِ في مواجهةِ العبور.
مرضَ أديبٌ مرضاً شديداً. أودعَ المستشفى، حيثُ الأضواءُ القاسيةُ والجدرانُ البيضاءُ التي تذكرُه بالفراغ. في ليلةٍ كان فيها الضوءُ القمريُ يتسللُ من نافذةِ غرفتِه، طلبَ أن يحضروا له المرآةَ القديمة. وضعوها مقابلَه. نظرَ فيها. لم يعدْ يرى شجرةَ اللوزِ ولا الزهرةَ البيضاء. لم يعدْ يرى حتى انعكاسَ وجهِه الهزيل. كلُّ ما رآه كان ظلاً أسودَ يتوسّعُ كأنه بحرٌ من العتمة.
لكنّ في قلبِ تلك العتمة، رأى وميضاً. كان وميضاً أبيضَ صغيراً، كزهرةٍ وحيدة. أدركَ أنها لم تكن الزهرةَ التي لم يلمسْها في الطفولة، ولا الزهرةَ التي كانت تأتي بها ماريا كلّ يوم. كانت شيئاً آخر. كانت اللمسةُ نفسها. كانت الرغبةُ في اللمس. كانت الشجاعةُ التي جعلتْ من الترددِ قصيدة.
مدَّ إصبعهُ الهزيلَ نحو المرآة. هذه المرة لم يتردّد. لمسَ سطحَها البارد. وفي اللحظةِ التي لمسَها فيها، اختفى الظلُّ الأسود، وامتلأتِ المرآةُ بضوءٍ أبيضَ نقيٍّ، كأنه يحتضنُ كلَّ زهرةٍ في العالم، وكلَّ يدٍ امتدتْ برقةٍ ولم تمسس.
في الصباح، وجدوهُ ميتاً ..على وجهه ابتسامةُ طفلٍ نامَ على صدرِ أمه .. وكانت يدُه اليمنى ممدودةً وكأنها تلمسُ شيئاً غيرَ مرئي .
أما ماريا ، عندما سمعتْ بالخبر، لم تبكِ. ذهبت إلى المرسم. كانت الزهرةُ البيضاءُ التي تركها البارحة على الطاولة قد ذبلت. أخذتها ووضعتها بين صفحاتِ كتابٍ قديم. ثم جلستْ أمام اللوحةِ الأخيرة، لوحةِ اليدِ الممدودةِ والزهرةِ الشفافة. عزفتْ على كمانها لحناً لم يسمعْه أحدٌ من قبل. كان لحناً يحملُ في نغماتِه كلَّ هشاشةِ الجمال ، وكلَّ أبديةِ اللحظةِ التي تسبقُ اللمس .
وفي النهاية، أليستِ الحياةُ كلها موجودةً في تلك المسافةِ الرفيعة؟ المسافةُ بين الإصبعِ والزهرة. بين القلبِ والقلب. بين النغمةِ والصمت .. إنها المسافةُ التي لا تُقاسُ بالزمن، بل بالعمق. فيها نعيشُ، وفيها نموت، وفيها نولدُ من جديدٍ، كلَّ مرةٍ نجرؤ فيها على المدّ، لا لتملك، بل لتلمس.
وتبقى الزهرةُ وحيدة .. ويبقى الإصبعُ يتردّد .. ويبقى السرُّ يتجلّى.