الحــاج ” يـدهـــن “

قصة قصيرة : للقاص الراحل – فتحي العبدلي

أثار غبار المقبرة بوجهي حين نفض طاقيته الحمراء قبالتي .. فقد كان عائدا لتوه من الآخرة .. لم أدر ما الذي حدى به أن يأتي في هذه الساعة المتأخرة من الليل .

سألته أن يخفض من صوته إن كان يرغب في الحديث معي .. فأجابني بأنه لم يتجشم كل تلك المشاق من أجل ( الهدرزة ) .. قال إن ثمة أمر مهم دفعه لطلب إجازة كونية من لآخرة .. أبدى لي عدم ندمه برحيله عن عالمنا التافه على حد زعمه مبررا قوله السابق بأنه أخذ منه كفايته ومايزيد عنها .. همس لي مسرا بأنه قد تحايل في أحيان كثيرة على خصوصيات غيره منتحلا عذرا بضرورة تذوق أكلات الجيران موضحا قوله ( مش ديمه رز ) وأنه لابد من ( فردة حلوزي ) بين الحين والآخر مسترسلا بأن منظرها المغري وملمسها الناعم يجعلانك تلعن الشعير .. نسيت أن أذكر أن اسمه ( يدهن ) …

فقلت له اسمع ياحاج : لن تقنعني بأنك قادم من البرزخ لتناقش معي نوعية الدقيق الذي نأكله هنا .. ثمة أمر تخفيه وراء طحينك الأبيض هذا .. ثمة أمور تستحق النقاش بجدية ولها من الاستحقاق المراتب الأولى .

نعتني بأنني لازلت غبيا كما عهده بي زاعما بأن ماتعلمه هو بالزقاق والشوارع الخلفية يضاهي شهادة الثانوية التي أتبجح بها والتي وصفها بأنه ترشح بالبلاهة وتفوح منها رائحة الغش .. فاجأني قوله بأن أمرنا لايعنيه البتة وبالتالي لايهمه إن أكلنا خبزا أو تبنا سيان .. قالها بالعامية ( سوا سوا ) زاعما أنه لا يقصد لا النعمه ولا عجينها تلك شأنها ( والكواش ) مفيدا بأنه لن يبدي ندما حتى إن ( طاحت بالعين )

قلت : تبا لك أتقصد تلك الفرادي التي تتمايل خارج ( الطبق ) تلك التي علامة رفعها ( فرو وقرصة ) ؟؟؟

نعتني بالدرويش مجددا قبل أن يسترسل قائلا :

( شوف ) في زماننا الغابر ذلك حتى كسرة الشعير المتيبسة لم تسلم من المضغ فقد كان لجيلنا أسنان حادة كأسماك القرش .. ندش بها الفول الصلب علكة زماننا ذاك الذي مضى .. ثم إننا حينها لم نستعمل معجون الأسنان بتاتا لعلمنا أن له آثارا جانبية بمكان آخر .. أقسم لي بوالدي قائلا : أسمع ( وراس بوك ) جرب وصفتي ولن تندم .. عليك بمسحوق الفحم ولسان البحر ثم غرغر بماء ( الشابي ) ولا تنسى أن تترحم عليّ عقب ذلك .