سالم العبار
من خلال معايشة واقع مستجد اكتشفت أن هذه الحياة ليست لي لا الوجه وجهي ولا اللسان لساني ولا الذاكرة ذاكرتي .. هذه المدينة التي ظهرت كنبت شيطاني على حين غفلة .. لم تكن لي يد فيها إذا كانت غلطة فهي ليست غلطتي .. وإن كانت حسنة فليست من حسناتي .. لكنني لا أريدها أن تجعل من أكذوبة كبيرة .. من أنا ؟! سؤال يؤرقني .. إنني لا أستطيع التحدث بصيغة الجمع إذا لم أعرف صيغة المفرد .. لم أختر شيئا بدءا من اسمي وانتهاء بزماني ومكاني .. وتلك فجيعة ورثني إياها أبي ولم تكن له يد فيها .. أبي الذي طردته الحياة من جنتها فنزح ليكتشف بغتة عالما جديدا اسمه المدينة .. لا أحد يعرف كيف تكون في عجالة .. وهنا فقد أبي أشياء كثيرة كان عليه أن يبدل كل شيء حتى ذاكرته .. كان عليه أن يطمس كل أشيائه الجميلة وأن يراهن على المجهول وأن يحلم بالجنة الموعودة .. لقد أفنى في سبيل ذلك سنين طويلة ثم استفاق ليكتشف أنه على غير وفاق مع حياته الجديدة فبدأ يتعذب .. لقد مسخته المدينة بالتقسيط المريح .. أراد أن يعود ولكنه كان أحرق سفنه وأن الحياة حمامة طارت وهو إوزة تصفق لم يكن أمامه سوى أن يراهن من جديد وهذه المرة من منطلق أ، الأولاد امتداد الرجال وكنت أحد امتداداته الأربعة .. لا ندري ولا هو يدري كل هذه الامتدادات إلى أين تمضي .. كان يريد أن يجد نفسه فيها جميعها أو في بعضها أو في إحداها .. عرفت هذا حين بدأت أقرأه بوعي تام وأفسر حكاياته التي تبدأ في الريف وتنتهي في المدينة .. كان يستعيد الأمكنة والأزمنة والأحداث بدقة .. لكنه حين يصل بالحكاية إلى ذروتها تتفسخ .. تتوه في الأزقة وتمتصها الجدران ومن هنا كان لابد أن يكون ذاكرتي ولساني ووجهي كيف لا وأنا من صلب رجل إحدى رجليه في الريف والأخرى في المدينة ؟؟؟
رجل اكتشف خطيئته فحجبني عن الأزقة وأراد أن يداري سوءته فأسرني بحكايات الريف التي أفسدتها المدينة وأنا أيضا حاولت أن أراهن على حياة جديدة .. أريد أن أعرف من أنا .. أردت المكان الذي يملئني حميمية ودفئا .. أردت الحالة المفعمة بالصدق .. أردت الذاكرة البكر وهي ترسم دهشتها الأولى فلم أجد إلا سيرة أبي وحميمية أمي .. كانت هذه علاقتي اليومية بالحياة وحين تماهيت فيها اكتشفت أن أبي وأمي يلخصان تاريخ شعب ووطن وأمة .. لقد حاولت أن أشيد عالمي الخاص .. لم يكن ذلك ترفا وكان محاولة لإثبات الذات .. أن يكون لي لوني المتميز .. أردت لغة جديدة لكنني اكتشفت أني مصادر بغنائية القصيدة وأن حالة النص تتبدد من جراء عمل ميكانيكي .. وأن القصيدة المبنية على ذائقة السماع إذا دخلت قصة أفسدتها .. كنت أفرغ الحالة في شحنة انفعال على إيقاع غريب عنها .
عرفت أن القصة الحالة .. هي تلك التي تتحرر من الجاهزية .. أحاول أن أكون بسيطا ففي البساطة سر العمق ومفتاح الدهشة .. حاولت أن أجرب أن أكتشف كياني أن أعيد اكتشاف الأشياء من جديد .. ولا أسلم بمعرفية لها إحاطتها وشمولها .. فعدت إله الذاكرة لأجدني على نقطة التماس بين مرحلتين .. مرحلة يقصها أبي كاملة الأحداث .. فإذ بها قصة المرحلة التي أعيشها .. قصة مدينة لم تتحول إلى مدينة لم يرتسم منها سوى بعض ملامح الشكل في الوقت الذي تعشش البداوة .. قصة أناس ناموا ثم استيقظوا فاقدي الذاكرة وكنت واحدا منهم .. وها أنا أبدأ من جديد .. بعد أن اكتشفت مكاني في نقطة التماس بين القرية وطموح المدينة .. وقد يكون بعضكم قرأ بعض قصصي المبعثرة هنا وهناك في الصحف والمجلات .. ودائما أنظر إليها نظرة صوّبها نحوي أبي ذات مرة حين عجزت عن جمع ما تبقى من شياهنا التي نزحت معنا إلى المدينة .. لقد عجزت عن جمعها في الحظيرة .. كانت آخر ما تبقى له من ملك..حينها بكيت ملكا لم أحافظ عليه محافظة الرجال .
الأحداث تتداخل والذين لا يستهينون بالمواقف الصغيرة ويعرفون جيدا أن الهامشي هو الحقيقي وأن الظاهر زائف ولا يبلغ مدى المخفي .. حتما لن يستهينوا بهذه الواقعة الصغيرة الكبيرة ..
القضية ليست قصة بدوي أضاع بداوته .. القضية أن نعرف من الراعي ومن الرعية !!!! وكيف تقاس الأشياء الكبيرة .. على أبسط مثال :
قضية أمة فقدت الذاكرة ودفعنا واقع الحال إلى كتابة قصة واحدة في قصص كثيرة .. نعم أنا أفعل ذلك إنني أؤرخ لحياتي في المكان الذي حدثتكم عنه .. هناك عند نقطة التماس وقصصي رواية تكتب مجزأة .. وكل رواية عربية تتجاوز النقطة التي حددتها كمكان بخطوة واحدة في اتجاه المدينة قاطعة الصلة بجذور المكان الحقيقي لشخصياتها وهو الريف .. لن تكون في مستوى رواية استوعبت بعمق المكان المتأصل الذي تربطنا به علاقة حميمة وعميقة وهو الريف .. ومن هنا يمكن القول أن الكاتب العربي حتة وإن جنح بعيدا فهو يكتب رواية واحدة .. رواية ترمم مدينة أو تحاول أن تنشئها .. مدينة تخلق ولن تنتج رواية إلا مثلها .. إن الروائيين العرب والليبيين خصوصا حين يستعيدون الذاكرة لن يجدونها داخل مدينة تتخلق كل يوم وتبدل شكلها في كل لحظة شوارع تتبدل .. فتمحى أمكنة وذكريات وتبقى القرية الثابت تاريخا .. ولكم أن تلاحظوا شخوصها المتبدلين .. لهذا هرب القصاصون الليبيون إلى الذاكرة إلى الصحراء المنتج الثابت .