عفاف عبدالمحسن
اختلاف المكان وتوحد المشاعر هذه الجملة لخصت بها عزة كامل المقهور مجموعتها المعنونة ” سِفر الغابة ” إصدارها السادس بعد خمس مجموعات قصصية سبقت .. وحف توقيعها الكان ضمن أمسية أدبية احتضنتها قاعة الفنان الكبير كاظم نديم بأروقة معهد جمال الدين الميلادي رعتها الهيأة العامة للسينما والمسرح والفنون تضمنت أيضا اختيار الفائز بجائزة ” كامل المقهور ” للقصة القصيرة إحياء لآدب القصة القصيرة في شخص الأديب الراحل الموسومة باسمه الكبير .. وكانت من نصيب القاص الشاب / إسماعيل القايد من مدينة سرت .
قالت المقهور عن مجموعتها الأخيرة .. إنها كتاب حوى يوميات إمرأة ليبية في غابات كندا الثلجية على مدار ثلاث سنوات عاشت حنينا وشوقا لوطنها ولمدينتها عانت ألم الفرقة وتلك العلاقة التي لا تنفصم عراها وكأنها تلخص مزيجا لمشاعر إنسان رغم اختلاف المكان وبعد المسافات واختلاف المعايشات اليومية إلا أن المشاعر توحدت وكأنها باحت بسر المعادلة الحياتية .. مهما ابتعدت بجسدك عن الأماكن فروحها ورائحتها ومشهديتها تحملها معك أينما تكون .
الكتاب ضمن منشورات دار الفرجاني ” سفر الغابة ” أحداثه تدور بين الأعوام 2029 إلى 2021 حيث كانت القاصة تعيش في أوتاوا بكندا .. فكتبت على مدى أربع وثمانين يوما أربعا وثمانين نصا يوميا صورت فيها متأملة غابات ثلجية جالتها سيرا بين أحراش غابة لم تعهد بردها وبياض ثلجها حيث عاشت حقيقة مفارقة برد الواقع الكندي ودفيء غابات مدينتها التي لم تعهد الثلوج حتى في ليالي الشتاء القارص .. هنا يساورها ألم الفرقة وتختلط فرحة اختلاف لحظات عيش جديدة تخوضها تجربة لأول مرة مع الحنين للوطن فأصبحت الكتابة بالنسبة لها تنفيس منطقي طبيعي عن حالة التغرب واستدرار نستولوجيا الأماكن المعهودة هناك حيث ولدت وترعرعت وتعلمت وصادقت وتلمست موهبتها فغدت الأحرف التي رسمت يومياتها ” كتابة علاجية ” حسب وصفها الدقيق _ لمواجهة ألم الفرقة والحنين .
القاصة . د / عزة كامل المقهور

حديث المقهور خلال جلسة التعريف بكتابها في طرابلس
عن خصوصية التجربة .. وعبر الأمسية الأدبية المقامة في طرابلس بمعهد الميلادي في شارع الزاوية _ للتوقيع وإعلان جائزة كامل المقهور القصصية .. استهلت القاصة المستشارة القانونية عزة المقهور التعريف بكتابها بأنها لم تتوخى تمرير رسائل بعينها إنما فعل البوح اليومي عبر مواقع التواصل حينما نشرت يوما بيوم مشاهداتها ومعايشتها كمن يعيش تجربة شخصية أضافت الغربة لها نكهة وكنها مختلفا فكان لزاما من تدوين مايحدث لأن تلك الغابة التي عاشتها تجربة واقعية لم يكن لها نظير مما رأته سابقا من غابات ومواقع ويكمن الاختلاف .. كونها غابة خطرة شتوية عادة تحذر السلطات من التجوال فيها فحرارتها تنخفض فيها إلى 30 درجة مئوية تحت الصفر ورغم ذلك اقتحمت أحراشها .. مشبّعة تجربتها بروح التحدي كنوع من البحث عن الذات واكتشاف أغوارها والتماس مع الهُويّة .. وعدتها تجربة فريدة مع ملامح حياة الغابة أخذتها من أزمة انتقالها الاضطراري نحو منفى الشمال بكندا بعيدا عن طرابلس مدينتها الحانية فاتصلت بحميمية مع الغابة لم يؤنس دروبها في مجاهلها إلا ذاتا لم تته عنها بل وجدتها أكثر شجاعة في مواجة غابة تحوطها أكوام ثلوج من كل الاتجاهات .. وأخذتها الكتابة اليومية عن أحداث اتصالها بالغابة بالذات روحا والتصوير مشاهدة .. من محنة فقدان الارتباط بالمحيط فسجلت كل مامرت به وانطباعاتها الشخصية التي فرضتها اللحظة المعاشة رغم البرد ولم تنس منها شيئا فالصمت هناك مع كل ماصورته آنفا عنصرا مهما لتذكية جذوة التأمل فحدث تماسا تلقائيا مع مفردات الطبيعة بقاموسها الثري .
عزة المقهور توقع كتابها بأسطر استكمالية لمعايشتها … أحداثا في غابة أتاوا الكندية
ساعات من السير وحدي في المساحات الشاسعة الكثيفة، وأنا أتلمس طريقي وسط أحراشها، كنتُ في الحقيقة أتلمس شغاف روحي، أعاتها، أهدهدها، أعنّفها أحيانًا، وآخذ بيدها، وأحلم معها.
ما كان لها في الاختيار أن تترك أحضان الدفء إلى أهداب الثلج، ولا أوراق شجر التوت إلى إبر أشجار الصنوبر، ولا ملوحة البحر إلى عذوبة البحيرات، ولا حافة الصحراء إلى سواد الخضار.
من كل هذا التَّمازج والتَّنوع والدرجات والمسافات ، ما بين طرابلس وأتاوا، وُلِدَت سلسلة الغابة ذات شتاءات.
عزة


صفحـات من كتـاب سفر الغابة . يوميات في غابة أتاوا . كندا
(1) _ 29 . يناير . 2019
كنت أقطن جوار البحر، تهدهدني أمواجه طوال الليل، فإذا بي أقطن قرب غابة تُلوّنها ندفُ الثَّلج ليلا ليكشف الصباح عن لوحة متكاملة أهدتنا السماء طوال الليل قطنا خفيفا ها مسًا باردًا صافيًا. خرجت هذا الصباح فإذا به يسدُّ باب البيت، خفيفا كحلوى غزل البنات التي كانت تصطادنا صغارًا في عربات تقف على أرصفة أرض المعرض في مواسمه. اتجهت نحو الغابة، كانت خالية إلا من بعض العصافير التي مالت نحوي مستغربة زيارتي الباكرة. وجدتُ أثرا وحيدا لمن سبقني وهو يشقُ قلها بعصا التزلج، تاركا خطين خلفه. سرت وسط الأشجار المستحمة بندف الثلج، حُبلى أغصانها، مُنكسة الأعرف، خَجَلَى جذوعها، وقد طوقتها أكوام الثلج. كان الصمت رفيقي إلا من خطواتي ، والعصافير مؤنسي في مسيري، والاشتياق إلى دفء طرابلس في قلبي .

(15) _ 14 . فبراير . 2020
انخفضت الحرارة اليوم، فقارنت الثلاثين تحت الصفر، بدت الحياة في حالة تجمد… وحين بلغتها كان كل شيء كما هو، ولكن بلا حراك.. بَدَت لي أعراف الشجر جاهزة للكسر، وإبر الصنوبر الخضراء في حالة يباس والشمس تضيء دون حرارة.. لا شيء يهتز سواي، وبعض السناجب المذعورة تستحثّ الحرارة من الحركة والقفز من غصن لآخر، ورجل وامرأة يصوّبان آلات تصوير في انتظار طير مارق …..

تيبست أصابعي، ووجدت صعوبة في تحريك في… لففت الشال الصوفي حول فمي وأنفي، شعرت بنفسي كذاك المتلصص على المكان….. ها هو الربيع يطل برأسه بثغر وردي باسم وعينين لامعتين.. في ذلك المكان الذي أحب وإليه أحِنُ.. يتسلل الدفء كأقدام الأطفال الصغيرة الناعمة المترددة في المشي، وضحكات الفتيات الخجولة، ونحنحة الرجال عند أبواب تجمعات النسوة.. كنشاز تسريح «الزكرة»، وتسخين «درابيك» الزمزامات (1) واستهلال أصواتهنَّ بالصلاة على «الهادي».. كرغوة الشاي الأولى.. كرائحة إطفاء البصل والثوم في زيت القدر.. كأصابع «الزيانة»(2) في «ترشيق» العروس.. كطرقعة «الوشق» قبل أن يتسلل من تحت الأبواب…. متردّدًا، لكنَّه مُنتظر ومرحب به. في تلك البلاد الدافئة نبت الحب طبيعيًّا كنوار البقرعون، وورود نبات العسلوز الصفراء الصغيرة وبراعم التوت المختبئة تحت الأوارق المنفرجة، وحبَّات اللوز المكتسي قلها اللزج بالقطيفة الخضراء، وحبات الخوخ القارصة والتين المشدودة القوام قبل أن تنتفخ وترتخي عسلًا… في تلك البلاد البعيدة الدافئة كيف تجمدت القلوب.. كيف توقفت عن الحب؟ كتلك الساعة الحائطية في بيت جدي حيث توقفت عقاربها، ولم يعد أحد ينظر إليها.. وإن نظر أزاح عنها مقلتيه ، وأدار عنها وجهه.. كيف أصبح الصبية كهولا يستسلمون للموت ؟

_______________
(1) الزمزامات: فرقة غنائية شعبية من النساء في الأعراس.
(2) الزيانة: امرأة تقوم بتزيين العروس والباسها الزي الليبي.
** الأديبة عزة كامل المقهور صوت أدبي بارز في الأدب العربي المعاصر / ابنة الروائي الكاتب رحمه الله كامل المقهور . حصلت على شهادة القانون الدولي من جامعة السوربون بباريس _ ونالت ليسانس حقوق عن كلية الحقوق . جامعة بنغازي .