كتب الناقد الجزائري الكبير الأديب محمد بسام العمري عن لحن الظلال نقدا أشبه بغزل أدبي لكنه يوضح كثيرا من منابت القوة في النص قال بتجرد القارئ المتفحص :
أخي حسين بن قرين درمشاكي، حين تلامس القصص القصيرة جدًا أعماق القارئ دون أن ترفع صوتها، حين تعزف على قيثارة الوجدان بيدٍ من رماد، نعلم أننا أمام نصّ لا يُكتفى بقراءته، بل يُصغى إليه، كما يُصغى إلى لحنٍ آتٍ من عمق الحنين والغيب.
“لَحنُ الظِّلالِ” نصّ يكتنز شاعريته في اختياراته الدقيقة للصور والتراكيب. ينقلنا من سكون الفجر إلى انبعاث الروح، ومن صمت القبور إلى صدى الأنين، كل ذلك دون أن يُحدث صخبًا، بل بتواطؤ خفيّ مع القارئ، يجذبه شيئًا فشيئًا نحو الخاتمة التي تُقلب الواقع على رأسه، وتدفعنا إلى إعادة القراءة بوعي جديد.
السرد يسير بخفة شعرية على الحافة بين الحلم والماوراء. من أول جملة: “تسرّبت خيوطُ الفجرِ الأولى، خجلى، لتُعانقَ أطرافَ القبرِ المهجورِ”، نحن أمام شاعرية لا تتصنع، بل تتسلل كماء الحياة في أرض ميتة. ليلى، أو تجلّي الروح المتعبة، تنقلنا إلى حالة تشبه التقمّص، لكنها أعمق من مجرد تناسخ: إنها دورة الحنين في جسدٍ مشبعٍ بالفقد، وقيثارة لا تنسى.
من الناحية البنيوية ، أبدعت في خلق الإيقاع الداخلي للنص، من خلال تكرار مموّه للثيمات (القيثارة، اللحن، القبر، الجسد، الروح)، فجعلت القارئ يدور في دوّامة حسية وزمنية تعزز من وقع المفاجأة النهائية. تلك النهاية، رغم شفافيتها، جاءت محمّلة بصدمة وجودية، حيث يتداخل الوعي بالموت مع الوعي بالحياة في لحظة كشف مريرة.

ومع ذلك، فإن جمال النص لا يمنعنا من ملاحظات دقيقة، قد تُثريه وتزيد من كثافته :
بعض الصور، رغم جمالها، تميل إلى الزينة أكثر من الضرورة السردية، كقولك: “شعرُها الذهبيُّ يتراقصُ كشلالٍ من نورٍ في ظلمةِ المقبرةِ القديمةِ”، وهي صورة باذخة، لكنها تكاد تُشوّش على رهبة المشهد. لعلّ تقليل اللمعان هنا يُفسح المجال لهالة الغموض.
كذلك، تتكرر أحيانًا مفرداتٌ قريبة المعنى دون حاجة (كالقيثارة، اللحن، الأنين، الترنم، الأوتار…)، مما قد يُثقل الإيقاع العام للنص. الدمج أو التخفيف يتيح للمعنى أن يتنفس بعمق.
المفاجأة في نهاية النص ذكية، لكنها يمكن أن تُدعم برموز خفية منذ البداية، تزرع الشك في هوية الجسد، دون أن تبوح مباشرة، لتعزز أثر الانقلاب الأخير. مثلًا، ربما كان لظلّ القبر المجاور أو لوَجعٍ غامض في جسد ليلى دورٌ تمهيدي.
جملة “لم تكن تتذكّرُ اسمَها الحقيقيَّ” هي مفتاحٌ هامٌ لكنه ورد مبكرًا نسبيًا؛ ربما تأخيرها قليلاً قد يمنح النص مزيدًا من التماسك الدرامي.
لكن، رغم هذه الملاحظات، فإن ما يُحسب لهذا النص هو تفرّده في التناول: روحٌ تبحث عن عزفها الأخير لا لتستريح، بل لتُوقظ أخرى كي تأخذ الدور. نحن هنا أمام دورة موسيقية للموت، حيث يُصبح اللحن شيفرة البعث، والمقبرة خشبة مسرح تعود فيها الأرواح من وراء الستار.
وكم هو عظيم أن تُكتب ق.ق.ج بهذه الروح، دون أن تُختزل في لعبة المفاجأة فقط، بل أن تبقى في النفس كجرسٍ بعيدٍ، لا ندري أهو نداءٌ من قبرٍ مجاور، أم صدى الروح التي دفنّاها فينا منذ سبعين عامًا.
لك التحية يا حسين، على هذا النص الذي يشبه قصيدة منسية على شواهد المقابر .. وختامًا، لعلّ أجمل الحكايات تلك التي لا نعرف أبدًا لمن كتبت، لأنها كتبت لتُعاد… حين نستبدل الظلال بالأجساد.

_ ق . ق . ج / لَحنُ الظِّلالِ _ للقاص الليبي حسين درمشاكي _
تسرّبت خيوطُ الفجرِ الأولى، خجلى، لتُعانقَ أطرافَ القبرِ المهجورِ. كانت ” ليلى” تجلسُ، وشعرُها الذهبيُّ يتراقصُ كشلالٍ من نورٍ في ظلمةِ المقبرةِ القديمةِ. أناملُها الرقيقةُ تعزفُ لحنًا شجيًّا على قيثارةٍ خشبيةٍ عتيقةٍ. كلُّ وترٍ يئنُّ بوجعٍ. كلُّ نغمةٍ تروي حكايةَ غيابٍ. لم يكن أحدٌ ليُصدّقَ أنها، منذ سبعةِ عقودٍ مضت، دُفنتْ هنا، تحتَ شاهدِ القبرِ الذي احتضنَ جسدًا غيرَ جسدِها.
في كلِّ ليلةٍ مقمرةٍ، كانت روحُها تُحلّقُ من عالمِ الأمواتِ، لتُسكنَ جسدًا آخرَ. جسدٌ جديدٌ، لكنَّ الروحَ هي هي، مُثقلةٌ باللحنِ الأخيرِ الذي عزفتْه قبلَ أن يُسدلَ الستارُ على حياتِها الأولى. كانت تترنّمُ بذاكرةٍ، بأسماءٍ، بوجوهٍ، لكنها لم تكن تتذكّرُ اسمَها الحقيقيَّ.
فجأةً، انبعثَ ضوءٌ خافتٌ من القبرِ المجاورِ. اهتزّتْ أوتارُ القيثارةِ في يدِها، وتوقّفَ اللحنُ. انتفضتْ ليلى، عيناًها تُبصرانِ شتاتَ الغيبِ. من بينِ شقوقِ التربةِ، انبثقتْ يدٌ مُتعبةٌ، نحيلةٌ، تحملُ قيثارةً أخرى، مُتهالكةً، عليها آثارُ ترابِ الزمانِ. ارتجفتْ، وسقطتْ قيثارتُها من بينِ يديها.
وبصوتٍ أجشَّ، خافتٍ كهمسِ الريحِ بينَ القبورِ، همستْ اليدُ: “أخيرًا… وجدتُكِ يا ليلى… لقد حانَ وقتُ التبديلِ… كانَ لحنُكِ هوَ ما أيقظني… لقد مللتُ الانتظارَ سبعينَ عامًا.”
تجمّدتْ الدماءُ في عروقِها. أدركتْ في تلكَ اللحظةِ المريرةِ، أنَّ جسدَها الذي عاشتْ به كلَّ هذه العقودِ، لم يكن سوى الجسدِ الذي دفنتْهُ هيَ بنفسِها، قبلَ سبعينَ عامًا، بجانبِ قبرِها… جسدُ ابنتِها الوحيدةِ التي ماتتْ قبلَها بيومٍ واحدٍ. والآن، هيَ الروحُ التي كانت تسكنُ القبرَ المجاورَ.