الأخبار الشاملة والحقيقة الكاملة​

2025-09-09

3:48 مساءً

أهم اللأخبار

2025-09-09 3:48 مساءً

الثقافة خطر يصنع وعي الجماهير

سالم الهنداوي

سالم الهنداوي

هل مايزال المثقف في بلداننا العربية جميعها يُحّسَبُ له ألف حساب ؟ ولماذا لم تعد الثقافة تشكل وعي الجماهير وتسهم في ارتقاء الشعوب ؟ يخلخل الهنداوي في مقاله النقدي عن مآل حال المثقف والثقافة ليصيب عين الحقيقة التي تقول كل شيء تغير في مجتمعاتنا حتى المثقف لم يعد هو ذاته والثقافة لم تعد مؤثرة .. ربما لأن كل شيء تسطح حتى الكلمة التي كان لها اعتبارها وكانت البدء .. سنقرؤه ونسبر غور مكنونه المثقف عبر مقالته المهمة :

_______________________

كان الأدب وتراثه النثري الغني، في الشعر والسرد ومسرح الحكواتي، من حاجة الإنسان الماسّة إلى المعرفة بجوانب الحياة وأعماقها، في مجتمعات حضارية ناشئة كانت تعيش على ما تجود به وسائل الإعلام البدائية، من خلال راديو وتلفزيون وجريدة من ورقة واحدة، إلى أن جاءت التكنولوجيا وتطورت بما تكفي حاجة الأغراض، فاتسعت الموجات القصيرة والطويلة للراديو، وتنوعت برامج التلفزيون الأرضي، من الأخبار إلى المنوعات الاجتماعية والثقافية، إلى البرامج الحوارية إلى المسلسلات إلى نقل وعرض الخطابات والحفلات والمسرحيات والرياضات.. فكانت جميعها تمثل المحطات الأولى في الإدارة الأثيرية للوعي المجتمعي الذي جاء ساعداً لمراحل التعليم المختلفة ومناهجها العلمية، كما جاء تكميلاً للأدوار الحزبية الوطنية التي تأسست في مرحلتها الأهم، ضد الاحتلال والاستعمار الأجنبي، وما صاحب تلك الحقبة من الصالونات الاجتماعية والثقافية والسياسية، إلى جانب ثقافة المقاهي الشعبية وتأثيرها في صُنع النخبة ومكانتها الاجتماعية بين الناس.

برز «الأدب» قديماً في التراث الشعبي، ولعب دوراً مهماً في حياة المجتمعات وتكوينها الثقافي، حتى إنه أصبح من الضرورات اليومية التي تقتات عليها روح الإنسان صباح مساء، وبه نمت ذائقة الإحساس بالجمال، والقدرة على التخيُّل والتفكير، وبتلمُّس الحقيقة في جوهر الكلمات ومعانيها.. إنها الكلمات الدّالة التي صنعت المنابر وأقامت العهد قبل الصلاة. فرحلة الإنسان في الحياة كانت بدأت بكلمة. .. فا إلى وقتٍ قريب ومعظم الأنظمة العربية كانت تحسب للمثقف ألف حساب، بل وتحترس من «الثقافة» كونها الخطر الذي يصنع وعي الجماهير.

كان الحال اعتيادياً في أزمانٍ تتغيّر وتتطوّر صناعياً وعلمياً وتكنولوجياً، ليبقى الأثر في المجتمع واضحاً في المراحل المتعددة، بما اكتسبه المجتمع من مناعة معرفية ساهمت في تغذية العقل وتنمية الفكر.. وبحجم الوعي الذي تأسس على أهمية الحاجة، ظهرت المعارضة الخجولة من داخل السُّلطة الحاكمة، الأمر الذي هيأ لنشأة الديمقراطية في نسختها العربية القبلية، وسنّ الدساتير على مقاس شكل الحُكم وديمومته، على أن ينتخب الشعب حُكّامه من ذوي الوجاهة في المجتمع، ويذهب الناخب إلى البيت ليرتاح بعد أن أجاب على أهم سؤال كمواطن مقصود أمام السُّلطة، بأخلاق السُّلطة في تعاطيها مع شعار «الحقوق والواجبات»، وهو غير معني بالمشاركة في الحُكم بموجب الدستور، ولكنه معني بتلبية نداء الوطن، في التجنيد الإلزامي، لحماية «الحُكم» باسم الدين والوطن!

كُل الذين حكموا البلاد العربية، كان عدوّهم الأخطر «المثقّف» وليس الحزب السياسي، فالحُكم بالإحكام كان كفيلاً بحماية نفسه بتقنين النشاط الحزبي ومناهج التعليم، وتوجيه مواد التاريخ لصالحه، والامتثال حتى في اختياره المنهجي للقصائد العمودية لشعراء الأفضلية المناسبة، فلا تجد قصيدة واحدة ثورية إلّا لشاعر مؤدلج أو منفي من نظامه على خلفية أيديولوجية.. وفي العقود الأخيرة من الألفية الثانية انتشر الشعراء المنفيّون بين الأوطان عن أوطانهم كما سواهم من المثقّفين، فكانوا في «الوطن البديل» يعيشون في رغد تحت وصاية الحاكم البديل في نظامٍ سياسي مناكف.. فكان الشاعر «المعارض» في الأساس هو ضحيّة جلّاده في معصيته على تقدير قيمة الحرية في «وطن» هو جوهر الخلاف بين «المثقّف» و«الحاكم».. فالمثقّف يرى الوطن مقدّساً محمياً بقيمه في تراث شعبه وهُويته وتاريخ نضاله، فيما الحاكم يرى الوطن الأرض التي يملكها بخيراتها، ويمكنه قطع يد من يعتدي، وقطع لسان من يتجرّأ، لينتهي الوطن في قبضة الحاكم إلى أرض خصبة والناس فيها مُجرّد قطيع مأمور طائع لأوامر الحاكم، أو متمرّدين طريقهم إلى الزنازين، أو مشرّدين فقراء في الوطن، أو مهاجرين منفيّين في الغربة وفي وجدانهم الوطن المسلوب، في قصيدة تهاجر في الفصول بأحلام الوطن، وبرواية الوجع الطويلة على أرصفة المنافي!

عاش الشعر الحرية في أبهى صورها، وكان الشعراء مدجّجين بألغام الكلمات التي هزّت أركان أنظمة السوء العربية، هناك من أودع السجن فزاده السجن تمرُّداً كما في تجربة المصري أحمد فؤاد نجم، وهناك من لفظوه فكان شعره وبالاً على العهد الأليم كما في تجربة العراقي مظفر النوّاب وقافلة المعارضين «شعراً» كما الجواهري وسعدي يوسف وصلاح نيازي، وآخرين.. وهناك من انحاز للشعر جمالاً لوطنه الأُم فاختار الرحيل شراعاً في الكلمات كما في تجربة السوريّيْن نزار قباني وأدونيس، وقائماً في الوطن، قريباً من أوجاع الناس مثل محمد الماغوط، وحالماً في دمشق مثل نزيه أبوعفش، ومُصاباً بفراغ الروح مثل الليبي جيلاني طريبشان الذي سقط بين الناس ويده على قلبه يهتف «يا الله ارفق بهذا القلب!»، ومهزوم الذّات في المكان كما في انتحار اللبناني خليل حاوي، وعليلاً بأوجاع «الاستسلام» مثل المصري أمل دنقل، وتائهاً عن قصائدة في ميدان طلعت حرب مثل نجيب سرور!

يكون المثقّف صوت الناس حين لا يكون مؤدلجاً، فالحرية حق والوطن تحت الشمس حقٌ، والنضالُ من أجلهما موقفٌ من صميم مبادئ المثقّف الشجاع كما في تجربة التونسي الراحل «محمد الصغير أولاد أحمد» الذي عاش في كنف الجوع هاتفاً بالحياة والحرّية في وجه السُّلطة، وكما في تجربة الليبي الراحل الكبير «محمد الشلطامي» الذي دخل مراراً سجون العهديْن السابقيْن لمجرّد أنه شاعر «حقيقي» خرج من العتمة، ومن الطريف أن يلكزه السجّان وينعته بالشيوعي لأنه رآه يصلّي على سجّادة حمراء!

إلى وقتٍ قريب ومعظم الأنظمة العربية كانت تحسب للمثقف ألف حساب، بل وتحترس من «الثقافة» كونها الخطر الذي يصنع وعي الجماهير .. اليوم، وقد سقطت الأنظمة ، من الشاعر الذي بإمكانه يرعب «أنظمة العهد الجديد» بعد ثورات الربيع، في العراق وفي ليبيا وفي اليمن وسورية.. فلا «أنشودة المطر» تحيي السيّاب من جديد، ولا الشابّي يردِّد «إذا الشعب يوماً أراد الحياة..»، ولا حتى أمير الشعراء يجهر بتعبيره الخالد «وللحرية الحمراءِ بابٌ، بكُلِّ يدٍ مُضرّجةٍ يُدقُّ».. لقد غابت الضمائر خلف الغيوم السود في سماء الوطن العربي، ولم يعُد الشعر فعلاً مضارعاً والقصيدة فعل أمر، ولا السجون تضيق في عهد الطغاة لكي تليق بالشعراء !

شارك المقالات:

مواقيت الصلاة

حالة الطقس

حاسبة العملة

PNFPB Install PWA using share icon

For IOS and IPAD browsers, Install PWA using add to home screen in ios safari browser or add to dock option in macos safari browser

Manage push notifications

notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications
notification icon
We would like to show you notifications for the latest news and updates.
notification icon
You are subscribed to notifications