وسط تصاعد التحذيرات من انهيار مالي وشيك، تواجه ليبيا أزمة اقتصادية خانقة تنذر بتداعيات خطيرة على الاستقرار العام في البلاد، في ظل استمرار الانقسام السياسي بين حكومتي الشرق والغرب، وتعثر اعتماد الموازنة العامة، وتدهور قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية.
في بيان رسمي مثير للقلق، حذّرت لجنة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التابعة لمصرف ليبيا المركزي من معلومات دولية تفيد بوجود أنشطة مالية مشبوهة تمر عبر النظام المالي الليبي، الأمر الذي قد يُعرّض البلاد للمساءلة القانونية الدولية، ويُسيء إلى سمعتها العالمية.
وأكدت اللجنة أن استمرار الثغرات التنظيمية الحالية يشكّل تهديدًا مباشرًا لسلامة النظام المالي الوطني، داعيةً إلى الإسراع في اعتماد قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بما يتماشى مع متطلبات مجموعة العمل المالي (FATF).
وشددت اللجنة على أن أي تأخير في إقرار هذا القانون سيزيد من المخاطر التي تمسّ سمعة ليبيا وتؤثر سلبًا على الاستقرار الاقتصادي والمعيشي.
في خضم هذا المشهد المعقّد، أوضح رئيس الحكومة الليبية، أسامة حماد، في بيان توضيحي، أن حكومته قررت الامتناع عن تسليم البيانات المالية والمصرفية الخاصة بموظفي الدولة لحكومة الوحدة الوطنية، مشيرًا إلى أن هذا القرار يأتي حفاظًا على أمن وسلامة البيانات، ومنعًا لاستغلالها فيما لا يخدم المصلحة الوطنية.
وأكد حماد أن حكومته ملتزمة بنهج الإصلاح المؤسسي، مشيرًا إلى تنسيق مستمر مع مصرف ليبيا المركزي لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة، خاصة فيما يتعلق بمشروع الموازنة العامة.
وفي رد سريع، أبدت حكومة الوحدة الوطنية انزعاجها الشديد من هذا التوجيه، الذي اعتبرته إقصائيًا وغير شرعي.
ورد الدبيبة بإعادة فتح ملف الاتفاق الموازي، الذي قال إنه يبدد المال العام، معلنًا اعتماد التحول الرقمي في إدارة المرتبات عبر منظومة (راتبك لحظي)، معتبرًا أن هذه الخطوة ضرورة وطنية لحماية المال العام أولاً، وإنصاف العاملين الحقيقيين في مؤسسات الدولة.
من جانبه، طالب محافظ مصرف ليبيا المركزي، ناجي عيسى، رئيس مجلس النواب بتأجيل اعتماد مشروع الموازنة العامة لسنة 2025، مشيرًا إلى أن الصيغة المقترحة لا تعكس الواقع الاقتصادي، وتحمل مخاطر تضخمية تهدد استقرار الدينار الليبي.
وفي رسالته إلى المستشار عقيلة صالح، شدد عيسى على أن إعداد الموازنة يجب أن يستند إلى إيرادات فعلية متوقعة، ويأخذ في الاعتبار القدرة الاستيعابية للاقتصاد الوطني.
ووصف القيمة المقترحة للموازنة البالغة 160 مليار دينار بأنها “غير واقعية”، خاصة في بنود الرواتب والمحروقات ونفقات التنمية، محذرًا من أن استمرار الإنفاق العشوائي دون إصلاحات هيكلية سيعمّق الأزمة.
في خطوة تعكس محاولة لتفعيل الأدوات الرقابية، عقد محافظ المصرف المركزي اجتماعًا مع رئيس ديوان المحاسبة، خالد شكشك، لمراجعة الحسابات الختامية للمصرف للفترة من 2017 إلى 2024، ومتابعة القوائم المالية للمصارف التجارية.
وأكد المجتمعون ضرورة تسريع وتيرة العمل، وضمان شفافية ومهنية المراجعات المالية، بما يعزز الثقة في القطاع المصرفي.
في سياق متصل، أصدر ديوان المحاسبة قرارًا بوضع الحسابات المصرفية لجمعية الدعوة الإسلامية والجهات التابعة لها تحت “الرقابة المصاحبة”، في خطوة احترازية تهدف إلى ضمان مشروعية العمليات المالية ومنع أي تجاوزات محتملة.
ويأتي هذا الإجراء في إطار القانون رقم (19) لسنة 2013 بشأن صلاحيات ديوان المحاسبة، ويعكس حرص المؤسسة على حماية المال العام وتعزيز الرقابة الوقائية.
وعلى صعيد الأسواق، سجل سعر صرف الدولار الأمريكي في السوق الموازية ارتفاعًا غير مسبوق بلغ 7.79 دينار ليبي، ما يُفاقم من معاناة المواطنين ويُهدد بموجة تضخم جديدة تُزيد من الأعباء المعيشية.
ويُرجع مراقبون هذا الانهيار إلى غياب السياسات المالية الموحدة، والصراع المستمر بين المؤسسات السيادية، فضلًا عن الانقسام الحاد بشأن مشروع الموازنة، الذي لم تنجح أي من الحكومتين في تمريره بشكل موحد حتى الآن.
باتت كل المؤشرات تُنذر بكارثة اقتصادية محتملة إذا ما استمرت حالة الشلل المؤسسي والانقسام السياسي، في ظل ضعف الرقابة، وتأخر الإصلاحات، وتدهور العملة الوطنية.
ويحذر خبراء من أن ليبيا باتت على أعتاب “انهيار اقتصادي شامل” ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة لتوحيد المؤسسات، وإقرار موازنة واقعية، وتبني سياسات نقدية ومالية رشيدة تنقذ البلاد من الانهيار، وتحمي أمنها الاقتصادي والاجتماعي.
