أمين مازن
كتب عنه الكبير ابراهيم الكوني تحت عنوان أوْلِيس الوطن :
” أئمّة الجيل أمثال أمين مازن يلقّنوننا الدرس الذي يقول حبّ الوطن ليس ترفاً، ولكنه، في رقابنا، دَيْنٌ “
لم يكن أمين مازن ليغدو، في واقعنا الثقافي، فارس الزمن الجميل، بل الأجمل، لو لم يكن مهندس الهوية الوطنية بلا منازع، طوال تجربته الفكرية منذ نهايات خمسينيات القرن الزائل، حتّى واقع اليوم، من خلال إدمان التحريض المحموم على حبّ الوطن، لا بقلمه وحده، ولكن بمواقفه السياسية أيضاً، ليستنزل في هذه العاطفة الإنسانية سلطاناً لا يُقهر، يكفي برهاناً أنها، في معجم التقوى، القرين الأكثر حميميّة لمفهوم الربوبية، ليزكّيها شفيعاً في العلاقة مع ما كان، في يقين كل الأمم، قدس أقداس، كما الحال مع أحجية كالوطن، الذي نجهل حقيقته، وبرغم ذلك لا نتردّد في أن نجود بأرواحنا، كي نفتديه كلّما حاق به بلاء، كما لقّننا أسلافنا، الذين حملوه في قلوبهم، وطافوا به متاهات الصحراء الكبرى، كي يُجيروه من دنَس الدخلاء، الذين لم يكفّوا عن غزو شريطه الساحلي عبر القرن، ليرث فرسان، أمثال مازن، معنى أن يموت سليل الوطن، دفاعاً عن حرمة الوطن، على النحو الذي عبّر عنه أمير الشعراء أحمد شوقي، في رثاء أمير الشهداء عمر المختار، هذا اللغز الغيبيّ، الذي كان هَمَّ الأجيال، هو الوصيّة في تجربة فارس الزمن الضائع، ليكون الترجمان المخوّل بالتحريض على إعادة الاعتبار لمنزلته، في واقعٍ آخر، يختلف عن واقع الفرار بالوطن عبر الصحاري، هو واقعٌ وليد، ولكنه واعدٌ بالخلاص .

أديب تنوعت كتاباته في كافة المسائل حتى غدت الكتابة هي وسيلته للوصول للمعاني والناس وقراءة المشهد الليبي أولا فالعربي ثانيا .. أكثر من ثمانين عاما ورغم تتالي عقود العمر الزمني لم يفت هذا في عضده الذهني بالذات إذ لم يألُ جهدا للكتابة في الثقافة عامة وخصص قلمه أكثر للنقد الأدبي والسياسة وشغلته ليبيته حتى مارس طقس الاندماج في المسألة الليبية غوصا كي يفهمها ويفهمها الآخرين من حوله قراءة مبسطة بين السهل الممتنع .. أمين مازن المولود في طرابلس عام 1937 م .. أمين مازن من مواليد 1937 قيل إن مساربه في الكتابة تعددت لكن نهجه فيها كان واحدا وهو النهج التقدمي الوطني رغم تنوع الاهتمامات بذات الوسيلة أي الكتابة المتقنة التي تعد وكأنها دراسات متفحصة في كل مايكتب .. عرف بين مجايليه ثم تلاميذه فمتابعيه بحالة أدبيّة وطنية .. تشكلت على امتداد حوالي نصف قرن ونيف .. بدأ يعرف قلمه النافذ وأفكاره التقدمية حينما نشر أعماله عبر مجلة الرواد ومن ثم مجلة الإذاعة كما تميزت مقالاته المهمة في صحيفة الميدان وانتقل ليكتب في صحيفة الأسبوع الثقافي ثم مجلة الفصول الأربعة .. كما قدم برامج أدبية تميز بها بين متابعي الإذاعات الليبية حينها ” الجماهيرية . وطرابلس المحلية ” تلك المساهمات السمعية مع كثير من كتاباته واللقاءات الثقافية مع كتاب وأدباء ليبيا أهلته من قبل جميع من في المشهد الثقافي الليبي الأدبي ليترأس رابطة الكتاب والأدباء الليبيين فتميزت فترة رئاسته للرابطة بنشاط برامجي ثقافي ملحوظ ، وحركة تفاعل مهمّة بين كتاب وأدباء ليبيا في كل المدن الليبية بل واتسعت دائرة مشاركة هؤلاء الكتاب والأدباء في المحافل الثقافية العربيّة ، وجاهد كثيرا من أجل الحفاظ على تجانس الرابطة وتعميق التواصل بين أعضائها .. فكان حريصا على حضور أغلب المحافل الثقافية على مستوى الداخل والخارج ، وبذلك كون حلقة وصل مهمة بين المبدعين داخل ليبيا وخارجها وعلاقاته المحترمة الوثيقة بالكتاب العرب أهله هذا أن يكون أول من ابتدع أدب السيرة والمذكرات الشخصية .. ونقطة البدء التي سارت منهاجا عبر تأليفه كتاب ” مسارب ” ثلاثية تداخل في تركيبته أو لنقل تصنيفه الإبداعي أنه ” أدب السيرة والمذكرات الشخصية والرواية .

مازن كان ضوء لكثيرين عبر كتاباته من صحيفة لأخرى وهو راصد للمشهد الثقافي العربي عامة والليبي خاصة تأملا ونقدا ودراسة فأصبحت مقالاته مرجعا للبحاث ونقطة بدء للمبتدئين الراغبين الاستنارة بما كتب .
الأستاذ في المشافهة والمتحدث المحترف ديدنه التدوين
التدوين مسألة أساس في المبنى الثقافي والمعنى منذ مبتدئ الخبر في جملته المكتوب
…………
هو الناقد الذي يحرص على المختلفين معه قبل أن يحرص على رأيه فيهم ، فتكللت حياته ومساربها المتعددة بالعروة الوثقى في الوسط الثقافي والسياسي
………….
انشغل بكتابات الآخرين من الكتاب الليبين ، وخصص اهتماماته بالمبتدئين ، معتبرا الصحافة المكتوبة خير أداة لتشبيك العلاقات والتعرف على الكتاب وواكب العصر من بعد فولج عالم الرقمية كتب عبر موقعه الخاص في الإنترنيت وصفحته على الفيس بوك وولج تطبيق تويتر منذ عقدين من الزمن الآن … ومستمر
………………
ما ليس بالإمكان لا يُترك كله فثمة دائما ممكن .. نهجه وطريقه فهو لا يثير الأغبرة كي يُرى، فما ركب يوما المركب الرائج ولا المتسارع فهو يروز ما يقول ويفعل ما يقول حين يَلزم .. من أفكاره المهمة في ذلك : أن تمشي فإنك لا بد أن تتعثر ، مجمل القول وحكمته.
………………………


أمين المختار مازن ذلك الأديب الذي جس نبض المعاني من معايشته للناس والتصاقه بهم كما من مكوثه فترة ضمن سجناء الرأي بعد إعلان الثورة الثقافية في إبريل عام 1973 إبان النظام السياسي الماضي في ليبيا .. وقد عاش وتربي وتعلم في مدرسة “المختار” والده المتدين المحافظ لكنه أضحى متمردا على الكيان الاجتماعي السكوني حينها وكثير من العادات التي أعدها بالية قديمة لا تليق بالليبيين ولكنه وجدانيا ظل كما تربى متمردا على الغث متمسكا بما في الوجدان من قيم كما رباه والده ومن عرفه عن كثب من كتاب جيله ومن بعدهم أيضا أدركوا أن هذا ما سيج خياراته من أي شطط فالتوازن يحافظ على النغمة من النشاز كذا مسار أمين مازن ومساربه .. وبعد خروجه من السجن اشتغل في مطعم أسماه ” الأصفهاني ” واحتك أكثر بمعاناة الناس وتعرف على كثير من الكتاب هناك حيث عرف وبدأت أكثر أعماله بالانتشار عبر الصحف والمجلات حتى قال عنه الكاتب أحمد الفيتوري حيث احتفي بمازن في عقده الثمانين عام 2017 م فدرج الفيتوري في مقال تحت عنوان ” ثمانون أمين مازن “ :
خلال نصف قرن تقريبا تابعته ككاتب لا يملُّ ولا يكلُّ وفي هذا هو عملة نادرة .. الآن بعد ذلكم الدأب كما لو أنه في مبتدئه في الختام المسك للعقد الثامن .. أمين يكتب، يحاضر، ينشر عبر الانترنت، هو في الضوء كاتب يدون الرأي في المسائل وفي المسألة الليبية المجد. لا يلتفت إلى الوراء فقد أخذه غد البلاد فغد الابداع عن الأمس، أمسى يفكر ويتفكر في المستقبل، مُستقبلا الجيل لصاعد، ومفكرته مليئة بمن وما لم يولد بعد.
لم يحد أمين المختار مازن عن طريقه في الكتابة لليبيا ومن أجلها وظلت همه وحتى حينما يكتب عن مهنته الصحافة فإن القارئ يجده مهموما بمن فيها وبها كوسيلة للمعرفة والثقافة ونقل الخبر ومن فيها مجاهدون يجب أن يحترموا أيما احترام .. لم يتوقف وظلت الكتابة ديدنا ووسيلة لغاية سامية وكيف يستشف منهجه المتواصل مذ بدء في ستينيات القرن الماضي وحتى الآن .. من عناوين ومحتوى مقالاته الحديثة فالحديثة التي استقيتها مثالا لاحصرا :
_ لكي لا نُلدغ مرتين من الجحر الواحد ( 11. أغسطس 2025)
_ استعادة ليبيا المتحدة ضمان لليبيا الواحدة كتابه الثلاثية
( أغسطس 2025 م )
_ الصحافة أولًا والصحافة أخيرًا ( مايو 2025 م )
_ سنوات شلقم مراجعة أم تراجع؟ ( أغسطس 2024م )
_ عبد الله القويري وأُبوَّة الكلمة ( إبريل 2025 م )
«مسارب» ثلاثية من تأليف أمين مازن احتفى به الجميع وتلقفه الجميع وأنا في رحلة البحث عن مازن من خلال سيرته العظيمة المناقب والتأسيس قرأت أن السبب أنه تداخل في تركيبته أو في تصنيفه الإبداعي أدب السيرة ، والمذكرات الشخصية والرواية السيرة ، كما لاحظ قراؤه، وكما رصد ذلك أديب ليبيا الكبير الراحل ، خليفة التليسي ، الذي قال عن الكتاب :
«هذا عملٌ مدجج مند صفحاته الأولى وحتى نهاية الرحلة معه بالشمم والكبرياء والاعتزاز بالذات حتى لتشعر أن صاحبه يتحدى قوى خفية هو اعرف الناس بها تحاول ان تغصبه حقه الموروث او تنافسه فيه» وقال عن كاتبه «لم أره فرحاً بعمل من أعماله الأدبية فخوراً به كما رأيته فخوراً بهذه المسارب التي تبدو في جملتها قصيدة عز من تلك القصائد الشامخة التي نعرفها في قصائدنا العربية فخراً للأدباء واعتزازاً بالأبناء»، وأضيف إلى ذلك إنّه يدوّن شهادة أيضا تعلّقت بشخصيات توقف عندها أو مرّ بها الكاتب في مساربه، وتركت في ذهنه وفي ذاكرته أثرا، حفلت به عديد صفحات الكتاب .
ختاما لما بدأت من تجميع لسيرة الفاخم الكبير الأديب المفوه أمين المختار مازن .. أترك القارئ لسيرته ومسيرته هنا عبر منصتنا مع ما كتب بنفسه عن المسارب وأعتبره مزيدا من التعرف على سيرته وتجواله ومحطاته الحياتية ففيها كثير من المواقف التي تكشف شخصية الأديب أمين مازن وجاء ذلك في مقال أسماه :

( مساربُ قطعتُها وأرجو أن أكتُبَها )
لم أكن وأنا أتخذ من بيع الشطائر بأحدث شوارع مدينة طرابلس في سبعينيات القرن الماضي أهدف للاحتجاج على الواقع الذي جاء مع نظام سبتمبر كما عبّرَ الصديق الراحل بشير كاجيجي بأسلوبه الساخر مع رفع شعار الاشتراكية رسمياً في البلاد وأبقى أنا كأحد المحسوبين على ذلك التوجه خارج الدائرة أقتات من مثل هذه المهنة.
فقد كنت مقتنعاً باستحالة العيش الكريم على الراتب الحكومي الضئيل الذي لم يعد يمثل شيئاً أمام الموارد العامة الجديدة وما أوجدته من فرص العيش الكريم وبالذات في قطاع الخدمات الذي يقي صاحبه التقرّب من المشتري، سواء للسلطة وما لديها من أوامر الشراء أو الشارين وقدراتهم على تحميل كل من يقترب منهم مذلة العرض ولا سيما إن كان قادماً من قطاع الفكر.
كما لفت نظري يومها الصديق العزيز محمد الصيد صفر أبرز الذين توجهوا مبكراً إلى ذلك النشاط حرصاً على اجتناب مذلة العرض، فأسس وادي الربيع بشارع النصر في محلَِه الذي استأجره منذ أوائل الستينيات.
وهكذا وجدتني ولمجرد تأسيس محل الأصفهاني بجانب السجل العقاري ومسجد السيدة راضية، سريع الاستجابة لما يدعو إليه شباب تلك الأيام الذين تخندقوا في الأسبوع الثقافي وكنّا معشر سابقيهم نُقدّر حماسهم ونراهن على ما يعدون به وإن كان البعض لا يشاركوننا الأمل المبالغ فيه، رغم أننا دُعينا عن طريق المرحوم أحمد إبراهيم الفقيه إلى لقاء في باب العزيزية كَكُتّاب للمطبوعة المذكورة واستمعنا إلى الكثير من الثناء والحث على المواصلة ومضاعفة النشاط وطُلِبَ إلينا أن نقول ما لدينا، فأسهم كلٌ بما استطاع.
وأذكر أننا اقترحنا إصدار مطبوعة تحمل اسم الأسبوع السياسي، ليكون لها حق تجاوز الثقافة إلى العام بالنقد وتناول الإنجازات، ورغم أن الرد جاء فيه ما مجمله يمكنكم الكتابة في كل ما تشاؤون، أما الإنجازات فكل إنسان وضميره.
لم نشعر بأي ضيق من احتجاجنا على رئاسة مجلة الثقافة العربية من طرف كاتب غير ليبي وكذلك الاحتجاج على إطلاق اسم الرئيس جمال عبد الناصر على شارع الفتح لأن اسمه أُطلِقَ على شارع آخر، وكذلك تحذيرنا من أن يترتّب على النقد الموجه إلى الموسيقى الغربية منع الأغاني، إذ كان الرد في الاجتماع أن ما قيل هو وجهة نظر خاصة وإلا لصدرت التعليمات صريحة.
لقد خرجنا في جو غير قليل من الارتياح، خاصة أن الشاعر محمد سعيد القشاط الذي كان قد تسلم شركة مؤسسة الصحافة من السيد عمر الحامدي لمهمة أكبر مسؤولية، أقول إن القشاط أفلح في الرد كثيراً وهو يُسأل عن عمله فقال مازجاً بين المزح والمعنى الأبعد مع ابتسامة عريضة واصفاً حاله بمن كان يعمل مع أحد الإيطاليين ظناً منه أنه معروف وإذا به يُسأل عن اسمه، والحادثة معروفة لدى كل من لديه فكرة ولو قليلة عن معاملة الإيطاليين لليبيين.
والمهم أن الجلسة انتهت قبل الثالثة ظهراً فخرجنا ممتلئين هناء إلا أن المفارقة كانت في جمع الأشرطة من الأسواق اللهم إلا من أخفاها، وإذا كان هذا الحوار قد تلته حوارات أخرى تعددت أمكنتها ومواضيعها، إلا أنها لم تفقد يوماً القدر الوافر من الاحترام الذي لا بد أن نشهد به حين يأتي وقته.
وتبقى الأسبوع الثقافي التي وثّقت صلتي بالثقافة بدل العمل الخاص بما وفرته من المنزلة التي أقرّها عبد الرحمن شلقم وأشرف وأدار حواراً ذا معنى أجرته فاطمة محمود مضيفة عليه من توجهها واختيارها للصورة التي ملأت الصحيفة وأثارت في زمنها أكثر من غيرة، هو ارتباط أسس له صديقنا الراحل عبد الحميد المجراب من رئاسته لهيئة المسرح التي علَت محل الأصفهاني فأتاحت فرصة التوسع والمشاركة في مراجعة النصوص ما حافظ على رابط الفكر والفن، إنها المسارب التي قطعتها وأرجو أن أكتبها وما زخرت به من التفاصيل والمبادرات الطيبة التي لم يبخل بها الكثيرون ولم تزدها الأيام إلا خلوداً.
______________________ **
جمعتها / الكاتبة عفاف عبدالمحسن