ناصر الدعيسي
هل الكتابة غريزة أم تجاوز لقانون البقاء في هذا العالم ؟
العالم المسكون بالخوف والرهبة .. عالم العولمة والاستنساخ والدمار الشامل وصدام الحضارات ونهاية التاريخ والإنترنت وعالم السوق .. هذا هو السؤال الذي خا\بني بعقل طفل وبروح مغامر وبإحساس سنوات طويلة عرفت فيها مرارة الكتابة والثمن الغالي الذي يدفعه القلم حينما تصبح الإشارات الحمراء في كل الخطوط .
تمازجت الحواس لتفجر حقيقة وأبعاد السؤال .. أي عما نتحدث ؟
ماهي غايتنا من هذا التساؤل الكبير؟
أحيانا نستدرك بأن الكتابة تستدرجنا للمجهول .. وأنه ليس هناك جنون أخطر من جنون الكتابة .. هذا الجنون الذي يصبح في أحيان كثيرة أغلى رهاناتنا ( الحلم ) والأحلام الكبيرة لا تموت لكنها تتلاشى بالتدريج .
نقف هنا في هذه المحطة بالقلم حتى لا نغوص في لوثة الاستعراض على الورق .. ونحن نقذف بهذه التساؤلات .. نكتفي بها حتى نرحم عقل قارئ من حروفنا لأنها ليست سوى محاولة لإحداث ثقب في الأفق .. إنه الأفق البعيد الذي يقفل منافذه وأبوابه باكرا وينام .
هذه الحروف التي تود أن تتسلل إلينا بشفافية مرهفة ولا ترهق أيامنا وسنوات تجعدها .. إن الكتابة اندلعت في جوانحنا كنار مقدسة عجزنا عن إطفائها فهي نار بريئة بيضاء .. لا تتكيء إلا على الذاكرة التي تهز القلم وتوقظ فيه جمر السنوات .. ولكن القلم يغدر بالوعي أحيانا وينسف مفاتيح العقل .. ومن هنا تتم استباحة شظايا اللهب لكل شيء حتى أوراقنا القديمة .
الكتابة غول يلتهم نا أروع لحظاتنا .. لا بل يحرمنا من توزيع العمر بعدالة .. نقف نصاب بالدهشة من الذي يجري معها فهي تعربد وتتلون وتغربل كل أحلامنا التي تتطاير كحبوب الحنطة …. تمزق الكتابة اختيارات القلم وتبطش ببطل تجلياته وتأخذه غريما لها وتلوح له في الأفق .. بفتح خط الرجعة وتساومه على البقاء مفعولا به بدل فاعل مرفوع الرأس حتى يتسنى لها غزو قلب لحظة الإبداع .. تضع أمامه الخيارات الصعبة وما أدراك ما الخيارات الصعبة فهي أكبر امتحانات القلم لأنه إذا رسب ليس هناك دور ثان إطلاقا .. وهي أصعب مواجهة يعيشها القلم مع الكتابة كعملية جراحية لرجل في نهاية العمر .
ورغم أن الكتابة لا تمسك بالحقيقة لكنها تساهم بفاعلية في البحث عنها .. وإذا كان الوهم هو الذي يمسك بالحقيقة كما يقول ” ميهربان ” فالكتابة هي أبرز أوهامنا .. ولأن الحقيقة ابن شرعي للكتابة فإن أي غياب لها هو تدنيس لثوبها الأبيض .. وتطاول على عفتها وإشراقها عند الناس الذين عرفوا يقينا بأن نصف الحقيقة كذبة .
الكتابة تصبح سلطانا جائرا على الضميير .. تخنق الموقف وتدفع بنا إلى ممر الدم وإلى حكاية كازنتزاكي ..
لا أهاب شيئا .. لا أخاف شيئا
سوى أنني إنسان حر وكفى
شروطها جائرة فإذا غابت اليقظة تصبح مداعبتها انقضاضا على العقل إذا رفض الترويض يتحول القلم إلى مراهق يعشق بنزوة عابرة ويدفع ثمن عشقه بلعبة عصبية .. لأن الكتابة نهر السباحة فيه مرتان .. رغبة ممنوعة .. تفاحة محرمة .. ساحة قتال .. الرصاص فيها لا يعود للبنادق لحظة تماس مثيرة بين الورق والروح .. مشهد بانورامي ساحر بين القلم والحبر .
حاولت أن أوقف هيجانها .. أن أقتل فيها بذرة الإرادة حتى أنسى كطفل .. حلم بلعبة الحصان الخشبي .. لكن دون جدوى .. إنه الحريق الداخلي .. التوهج مع لآخر ولهذا نسفت التجربة والهوية التتابع الزمني .. وأصبحنا نسبح في اللحظة الواحدة التي يعتبرها بسكال : هي اللحظة التي بين العدم والنهاية .
الكتابة ليست لحظة طيش إطلاقا .. بل هي واقع معاش دبلوماسية وقائية في مواجهة الحياة ولهذا كلما شعرت هي بالوهن والإحباط والتذمر والجنون .. كانت أكثر قدرة على إضاءة العراء في أعماقنا .. ليست هناك كتابة بريئة ورغم مساحة المناورة إلا أننا جرحنا الأسئلة ونحن نعترف أمام التاريخ بأننا لا نملك جميع الإجابات .. لقد كانت محاولة جريئة تماهت في سحابات أعمارنا .. ليست غيمة ماطرة .. بل قبلة لوطن حينما يستدير بها الفم للعناق .. تصبح قدرا .