محمد مهنا
هذا النص (ق .ق . ج/ وطأة الأمل) للرائع جدا حسين بن قرين درمشاكي يفتح أمامنا أفقًا قرائيًا مركبًا ، إذ يمزج بين البساطة اليومية (مصطفى على الرصيف ، سلة فارغة ، قطعة خبز) وبين الأبعاد الرمزية العميقة التي تشتغل على جدلية الأمل واليأس ، والحاضر المثقل والمستقبل الموعود .
ملامح القوة في النص :
” العنوان “
“وطأة الأمل” يجمع بين التناقضين : الأمل بما هو انشراح ، والوطأة بما هي ثقل . هنا يقدّم الكاتب مدخلًا دلاليًا يهيئ القارئ لصراع داخلي بين وعدٍ مؤجل وحاضرٍ خانق .
” المشهدية “
الصورة الافتتاحية (مصطفى على الرصيف ، سلة فارغة ، ظلال الشمس) تحمل ملامح واقعية ، لكنها سرعان ما تنفتح على فضاء رمزي مع حضور الطفلة وقطعة الخبز.
” البعد الرمزي “
قطعة الخبز لم تعد مجرد طعام ، بل تحوّلت إلى نص مكتوب ، أي أن “الخبز/ الحياة” يتماهى مع “الكلمة / الرسالة”.
الريح التي تهبّ ليست مجرد طقس ، بل قوة تطهيرية .. تحريرية ترفع مصطفى من الانحناء إلى الاستقامة.
” التناص والإيحاء “
الجملة التي تنقلها الطفلة عن أبيها : “كل شيء ندفنه اليوم سينبت غدًا” تستدعي أفقًا قرآنيًا وزراعيًا في آن ( البعث ، الإحياء بعد الموت ، دورة الزرع )، ما يعمّق البعد الروحي للنص.
” التحول الدرامي “
من بداية خانقة (رجل مهمش ، سلة فارغة) إلى نهاية تراجيدية ـ بطولية ( ينهض رافعًا سلة فارغة لكنها ” أثقل من أي شيء” ) ، يشي النص بمسار رمزي : الأمل ليس انشراحًا بل مسؤولية مؤلمة.
” البنية الجمالية “
التكثيف : النص ينجح في تكثيف المشهد دون إسهاب ، ما يوافق طبيعة “ق.ق.ج”.
اللغة : لغة مشحونة بالرمز والإيحاء ، تتراوح بين البساطة (قطعة خبز ، سلة ، طفلة ) والبلاغة الشعرية (أيها المارقون من خلف كثبان الوهم…).
الإيقاع : النص يتنفس بإيقاع متدرج : السكون (الجلوس على الرصيف) ، الحركة الطفيفة (قدوم الطفلة) ، العاصفة (هبّة الريح) ، ثم النهوض (الخطوة الأولى).
” قراءة دلالية “
النص يرسم صورة للوطن/الإنسان المرهق تحت وطأة وعود كاذبة ، لكنه يجد في براءة الطفولة (رمز المستقبل) بذرة أمل جديدة . غير أن هذا الأمل نفسه يتحول إلى عبء ، لأن تحويله إلى واقع يتطلب نهوضًا ومقاومة ، لا مجرد انتظار.
في الخلاصة :
النص بليغ لأنه يحوّل اليومي إلى رمزي ، والبسيط إلى مركّب ، ويؤسس جدلية قوية بين الجوع والكرامة ، اليأس والرجاء ، الأرض والريح ، الكلمات والخبز.
إنها قصة قصيرة جدًا ، لكنها مفتوحة على تأويلات متعددة : يمكن أن تُقرأ سياسيًا ، اجتماعيا ، أو حتى صوفيًا.
نص قيد القراءة النقدية .. القصة القصيرة جدا للروائي والقاص حسين بن قرين درمشاكي …
وطأة الأمل
جلس مصطفى على الرصيف، سلة فارغة بجانبه. كانت الشمس ترسم ظلالاً طويلة على وجهه. أصوات الشاشات الملونة تنبعث من المقاهي القريبة، تحمل وعودًا بـ “ربيع” لم يأتِ.
اقتربت فتاة صغيرة، تحمل بين يديها قطعة خبز. توقفت أمامه، ووضعتها في سلته. انفرجت محياها بابتسامة حفرت على وجهه أملًا جديدًا. أسرّت بصوت خافت، كوشوشة الريح: “أبي يقول إن كل شيء ندفنه اليوم سينبت غدًا”.
نظر إلى قطعة الخبز، ثم إلى الكلمات المخطوطة على وجهها: “أيها المارقون من خلف كثبان الوهم.. انصفوا التاريخ لينبت زرعكم بأرضنا!”.
هبّت ريحٌ قوية. شعر بانحناءة في ظهره، ثم استقام، كأنما يتحرر من حمولة ثقيلة. لم يجد قطعة الخبز في السلة، فقط البطاقة كانت هناك، تضيء بوهجٍ خافت. شيع رأسه، كمن يبحث عن شيءٍ فوق السحاب. نهض ببطء، رافعًا سلة فارغة صارت أثقل من أي شيء. خطا خطوته الأولى في شارع لم يعد مألوفًا.