خالد جودة أحمد
قصة (رائحة البارود) للقاص الليبي (حسين بن قرين درمشاكي) نجد الشروع الفوري بثريا القصة وأيقونتها الأثيرة منذ أول مفردات بالقصة : (كان عبق البارود يتغلغل في الهواء).
أيضا كان تمجيد هذه الأيقونة من خلال لغة القصة، من خلال ضخ جملة من المفردات عانقت النسيج القصصي، تميزت هذه المفردات بالتضاد مع حالة الحرب وما تفرزه من مآسي، كأنها ما يطلق عليه في النقد الأدبي (الرومانسية الثورية)، فنجد مفردات قد لا نتصور حضورها في هكذا نص يتناول الحروب وآلامها، مثل: “عبق”، “عبير الياسمين”. حتى نزعة الحنين إلى الماضي و شغف التاريخ الإنساني للمقاومة ساهم في تأصيل وتجذير تلك الحالة الرومانسية الوطنية. أنموذجًا: جاءت نزعة الحنين للتاريخ في مفردات أطلال حرب استردت بها الذات القصصية كرامتها، فهي حالة طللية لم يمحها الزمن.
هذا من ناحية لكن من ناحية أخرى لم تكن تلك الذكريات بنفس سطوعها القديم، بل جاءت صورا باهتة، وتعبيرات تتحسر على العهد القديم. فالشمس غاربة، وعبير الياسمين ذابل.
تلك المزاوجة بين الآني المفزع منحور الكرامة، والماضي الشامخ التليد حققها القاص بوسيلة التضاد والمفارقة في اللغة المستخدمة، تخبر أن الكتابة عن المقاومة تشبه حالة السير على حد السكين، بين قدرة التعبير بالملكة الإبداعية والفن القصصي عن موضوعات لها طبيعة الجهارة في التعبير، والحماسة التي تدفع الأسلوب للانهيار في هوة المباشرة. هنا كانت وسيلة مدافعة هذا الانجراف للمباشرة في الموضوع بغزل المفردات بين نزعتين الأولى الحنين للتاريخ والثانية نزعة مفارقة الحالة الرومانسية الأثيرة للمقاوم لواقعه الكئيب كما وضحنا سابقا.
طالع معي هذه الفقرة الموفقة: (جلس نصر –لاحظ انتخاب الاسم- العجوز على كرسيه المتهالك –دال واقعه الجامد وكأن أشياء المقاوم العجوز تشاركه نفس مصيرة وموصوفة بذات أوصافه- يده ترتجف كغصن منهك في عصف ريح قديم) والمجاز موفق يمزج بين اليد المرتجفة والطبيعة في وجه مقبول للمشابهة الحسية.
أما الواقع فقدمه عبر شاهده النصي: (.. ونافذة موحلة تطل على شارع يعتريه الصمت)
تميز النص أيضا بمراكمة الفعل القصصي، مما جعل الحبكة حيوية، فالنص يشير ولا يصرح، فيه حركة ودقة في التعبير عن الحركة، أنموذجًا: “وهو يرفع فنجان قهوته (كي يحتسيها كما هو مفهوم) … بعد قليل: “وضع الفنجان على الطاولة (يفهم أنه ما زال مستمرا في رشفها) .. بعد قليل وضع إطار الصورة القديمة على الطاولة بجوار فنجان القهوة الفارغ (أتم شرب قهوته)
ورغم هذه الميزة لكن الحبكة اعتراها غموض وتحتاج جهدا من القارئ لتفسيرها ليؤلف بين هذه الخيوط تأويلا يرضيه لقصة المقاوم القديم، هذه الخيوط :
فجأة انبعث من الغرفة المجاورة نحيب خافت لطفل
وأمسك باطار صورة باهتة لولد يافع
ثم خرج إلى الشارع تتبعه عيون النساء في صمت
هل القصة أقدم حالة الحرب القائمة مع استعادة ذكري قديمة واستنشاق أريج المقاومة ؟
أعتقد هذا صحيحا سواء كان الإطار للذات القصصية في شبابها أو كانت ذكرى ابنه الشهيد، وقد تداخلت الأزمنة بين الماضي المجيد والحاضر المترع بالأسف والضعف.
يبقي أنه لم تسلم فنية القصة القصيرة التي تتناول موضوع المقاومة من عبارة مكلفة أخيرة لأنها قالت ما سبق أن قالته القصة فنا، وأنها أكدت المؤكد وشرحت المشروح: (… تاركًا خلفه عبق البارود والياسمين وذكري لا تموت)!
رائحة البارود “القصة محل النقد للقاص حسين درمشاكي”
كان عبق البارود العتيق يتغلغل في الهواء، كأنه أطلال حربٍ لم يمحها الزمان، يمتزج بعبير الياسمين الذابل الذي يهمس عن حياةٍ مضت. جلس نصر العجوز على كرسيه الخشبي المتهالك. يده ترتجف كغصنٍ منهكٍ في عصف ريحٍ قديم، وهو يرفع فنجان قهوته. كانت عيناه التائهتان تبحران بين صورٍ معلقة على الجدار لشبابٍ تفيض وجوههم بالحياة، ونافذة موحلة تطل على شارعٍ يعتريه الصمت.
فجأة، انبعث من الغرفة المجاورة نحيبٌ خافتٌ لطفل، فانتفض الرجل، وهوى جسده المثقل على الكرسي. وضع الفنجان على الطاولة، وأمسك بإطار صورةٍ باهتةٍ لولدٍ يافعٍ يرتدي بذلةً عسكرية، ووسامٌ قديمٌ يلمع على صدره كأنه شمسٌ غاربة. مرر إبهامه على ملامح وجهه الباسم، ثم احتضن الصورة إلى صدره.
خارج المنزل، تجمعت نسوةٌ ارتدين السواد، يتناقلن همساتٍ كأنين الريح. رفع رأسه. أرخى الصورة عن صدره.وضعها على الطاولة بجوار فنجان القهوة الفارغ. أمسك بمفتاحٍ صدئ، وفتح صندوقاً خشبياً صغيراً، فخرج منه أريجُ الذكرياتِ الأليمة، ووضع الصورة في جوفه. نهض ببطء، وفتح الباب، وخرج إلى الشارع، تتبعه عيون النساء في صمتٍ ثقيل، تاركاً خلفه عبق البارود والياسمين وذكرى لا تموت.