عبدالسلام الفقهي
لا يمكنك المرور من ميدان السيدة مريم دون التوقف أمام المكتبة الطرابلسية وتفحص محتوياتها من مطويات وكتب ومجلات ومقتنيات إلخ فهي أشبه بمتحف أو معرض مفتوح، ذاكرة يتصافح فيها الماضي بالحاضر.
المكتبة تحكي أيضا سلسلة التحولات التي شهدتها ليبيا قبل وبعد الاستقلال، هذه الإشارات جاءت في حديث مع مديرها الباحث والفنان مختار دريرة، الذي قدم إحاطة عن خلفيات تأسيسها والوجه التاريخي لمباني الميدان كالصيدلية والمبنى والكنيسة والبيوت المطلة عليه.
أوضح دريرة إن المكتبة كانت ناديا للضباط الأتراك في العهد العثماني الأول، وفي العهد القرمانلي أصبحت ناديا للقناصل المعتمدين في بلاط الأسرة الحاكمة من بلدان إسبانيا وفرنسا وبريطانيا.. ثم تحولت بعدها إلى حانة تسمى «تشنترالي» ، بعدها أصبحت ملكا لأحد المالطيين وتغير اسمها إلى «ميتزالونا» وذلك سنة 1911، وبقيت على هذه الحال فترة النصف الأول من عهد الاحتلال الإيطالي ليعاد مرة أخرى باسمه الأول «تشنترالي».

من بقايا السفن
وفيما يتعلق بخصائص البناء، أوضح دريرة أنه لمدة أربعة قرون كانت مادته من بقايا السفن والطوب الأحمر ومواد أخرى حتى سنة 1962، حيث شب حريق أزيل على إثره المكان ليبقى أرض فضاء، وفي سنة 1977 خصصت لي الأرض وقمت ببنائها على الطريقة القديمة بمشاركة عديد المهندسين، مثل عبدالمنعم السوكني والمعمارية فطيطيمة الفيتوري، كل ذلك بعد أن فشلت في الحصول على قرض من البنوك، ولجأت إلى الأسلوب البسيط كالحوائط الحاملة وغيرها دون استخدام الخرسانة المسلحة، وهنا أردت الاعتماد على طريقة قديمة كانت سائدة في بناء الفنادق والبيوت الطرابلسية.
حكاية اعلان
ولعنوان المكتبة حكاية يسردها مختار دريرة، قائلا: «عندما انتهيت من بناء المكتبة تساءلت في نفسي ما العنوان المناسب لها وجالت في ذهني أسماء مثل المكتبة الحديثة، والعتيقة، ومكتبة السيدة مريم وبقيت في حيرة لمدة ثلاثة إلى أربعة أشهر، وبينما كنت في أحد الأيام أتصفح مجلد صحيفة الرقيب العتيد بالسرايا الحمراء لفت انتباهي إعلان يقول: (المكتبة الطرابلسية لصاحبها محمد شرف الدين بالفنيدقة وبمناسبة رمضان الكريم جلبت من تونس نسخا من المصحف الشريف برواية قالون وبأسعار بسيطة) . وفي زمن قراءتي للإعلان كان الشيخ محمد شرف الدين انتقل إلى رحمة الله وبيعت المكتبة ولم يتبق إلا الاسم الذي ورثته، حيث قمت بتصوير الإعلان وتسليمه لخطاط لنقله على لافتة رخامية».
ويمضي في حديثه عن المكتبة، مشيرا إلى أن محتواها يشمل حصيلة ما قام بتجميعه من الإصدارات الليبية طوال ستة عقود «الجريدة والدورية» و(الكتاب والصور والمخططات) ، بالإضافة إلى جزء من أعماله في فن التشكيل». لافتا إلى أن أقدم مطبوعة بالمكتبة ترجع إلى أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال الإيطالي، وكذلك جل المطبوعات الصادرة زمن الخمسينيات والستينيات وما لحقها خلال فترة النظام السابق طيلة 42 سنة، ومن جانب آخر وفرت المكتبة لطلاب الدراسات العليا من الماجستير والدكتوراه المصادر والمراجع اللازمة لبحوثهم في مجال الثقافة والإعلام.

البنك وشراء الأراضي
توقف دريرة في حديثه عند مبنى «بنك دي روما »، بقوله: في أواخر العهد التركي جاء إلى المكان رجل اسمه رشيد بي سنة 1875 ولم يلبث أن أجر بيته الذي أصبح بنك «دي روما» لاحقا إلى اليهودي أربيب الذي بدوره تحالف مع بنك «دي روما» الإيطالي ليصبح هذا المبنى فرعا لهم في ليبيا، وكانت وظيفة الأخير قبل الغزو الإيطالي هي التمهيد له من خلال شراء الأراضي ومنح القروض والتسهيلات المالية للتجار الإيطاليين ومساعدتهم على الاستقرار بليبيا، إلى أن جاءت فترة حكم إيتاليو بالبو، حيث نقل البنك ناحية الطابع الأوروبي للمدينة «شارع عمر المختار».
وبشكل عام وظف المبنى على مدى مئة عام، إضافة إلى كونه بنكا، ومتحفا للتاريخ الطبيعي، ومقرا لاتحاد عمال ليبيا الذي كان له دور كبير في الحياة السياسية والاقتصادية بليبيا، كما كان أول مقر بليبيا لمنظمة التحرير الفلسطينية إبان تأسيسها، وأول مقر لفرقة جيل الأمل، واستخدمته فرقة الجيل الصاعد وغيرها، عدا أنه استخدم كأول مستوصف بالمدينة القديمة عن طريق ما عرف بالنقطة الرابعة أي البند الرابع في الاتفاقية الليبية الأميركية لتقديم المساعدات.

ويطل على الميدان مدرسة عثمان باشا الساقزلي الراجعة في جذور تسميتها إلى القرن الخامس عشر، حيث تحول عثمان باشا من المسيحية اليونانية إلى الإسلام بالتحاقه بالجيش الانكشاري وعين كضابط في صفوف الجيش العثماني، وفي انقلاب عسكري آنذاك استولي على السلطة في قلعة طرابلس، ثم جاء عثمان خلفا لمحمد باشا الساقزلي وحكم ليبيا 38 سنة، وأنشأ المدرسة والحمام الكبير، وسوق الحرير وسوق اللفة وسوق الترك، أيضا أنشأ السجن التركي.
معالم أخرى.
وأشار دريرة بيده إلى معلم آخر يواجه الميدان تزينه ثلاثة أقواس، وهي الصيدلية الاقتصادية لعائلة كسار المالطية يبلغ عمرها نحو 300 عام وكانت تعمل على توفير الدواء بطريقة التحضير، ولا ننسى الإشارة إلى الكنيستين، الشرقية الأرثودوكسية والغربية الكاثوليكية، الأولى في عهد عثمان باشا الساقزلي، والثانية المعروفة بكنيسة السيدة مريم ترجع بتاريخها إلى عهد يوسف باشا القرمانلي، والذي بحكم علاقته الوطيدة بنابليون بونابرت قام بمنح بستان الأسرة القرمانلية إلى الفرنسيين وقاموا ببناء الكنيسة .